متعة تحليل الأحداث السياسية والغوص في تفاصيلها واستنطاقها، تكمن في الهامش الكبير من "القياس" الذي توفره تلك الأحداث للمشتغلين بها، ولا يتوقف الأمر هنا عند الاستدلال بشاهد على غائب أو إرجاع فرع إلى أصل، بل يتجاوز ذلك إلى إمكانية قيام مقارنات بين الوقائع والمعطيات المتشابهة وإعادة تفكيكها وتركيبها، لرسم صورة تقريبية لمستقبل متوقع الحدوث.
هذه المنهجية في التحليل تستحق أن نطبقها على حوار 2016، في إطار سعينا لاستشفاف صورة المشهد السياسي الوطني خلال السنوات الثلاث القادمة، واستنباط الفرص التي ما زالت متاحة للأطراف للتوصل إلى وفاق وطني.
يكاد حوار 2016 يكون طبعة منقحة من صنوه الذي سبقه بخمسة أعوام، وهذا ليس حكما تعسفيا بل إن لديه من المعطيات التي تعضده الكثير، فنحن أمام نفس المشاركين ونفس المقاطعين تقريا، إذا ما استثنينا بعض الأحزاب والتيارات السياسية التي برزت في فترة ما بين الحوارين، كما أن المواضيع التي تطرق لها الحواران والمخرجات المتأتية منهما متشابهة إلى درجة كبيرة والتمايز بينها إنما يرد في أغلبه إلى اختلاف السياقات، إضافة إلى ذلك تكاد تكون المنهجية المعتمدة وطريقة الحكامة التي توصل إليها المتحاورون، هي نفسها في كلتا الحالتين.
هذا التشابه الكبير بين الواقعتين السياسيتين، يمنحنا الحق في قياس أخراهما على أولاهما، ويحيلنا إلى سؤال مشروع: هل الحوار الأخير هو الحوار الأخير في المأمورية الأخيرة؟
بعبارة أوضح، ما دام حوار 2011 قد عجز عن حلحلة الأزمة، أليس من المنطقي أن يجري هذا العجز ذاته على حوار 2016 الذي كان بنفس الوصفة تقريبا، كما رأينا في المقارنة السابقة؟ وبما أن حوار 2011 احتاج إلى حوار آخر يؤسس عليه ويؤازره، ألن يحتاج حوار 2016 في وقت من الأوقات إلى حوار جديد؟
لكن الانتقال من التساؤل عن إمكانية قيام حوار جديد إلى القول بحتمية انعقاد ذلك الحوار، يتطلب التصدي لإشكال آخر لا يقل أهمية عما سبق، يتعلق هذه المرة بجدوى الحوار: فما دام حوار 2016 كان تقريبا طبعة منقحة من حوار 2011، ما الذي يضمن ألا يكون الحوار الذي نتوقعه قادما نسخة منقحة من حوار 2016؟ وما الذي يضمن أيضا ألا نظل ندور في هذه الحلقة المفرغة وألا تظل لعنة "الحوار بمن حضر" تلاحقنا إلى ما لا نهاية؟
للتصدي لهذا الإشكال، لابد أن ننطلق من مسلمتين أساسيتين:
الأولى، هي أن حوار 2016، لم يرد لنفسه أصلا أن يكون نسخة مشابهة لما سبقه، بل حدث الأمر صدفة، فالهدف المبدئي المعلن كان حوارا وطنيا شاملا، يشارك فيه الجميع ويؤدي إلى الوفاق المنشود، وهذا التوجه كان واضحا في تصرفات كافة الأطراف سواء في الموالاة أو المعارضة بتصنيفاتها المتعددة.
لكن الذي حدث هو أن تلك الأطراف وإن كانت قد اقتربت في وقت من الأوقات من تحقيق الهدف، إلا أنها في الأخير لم تستطع أن تزيح كل العقبات من طريقها فتعثرت ببعضها وحصل ما حصل.
المسلمة الثانية، هي أنه حتى وإن كانت عملية المقارنة تشي بتشابه عميق بين الحوارين، إلا أن ذلك لا يعني البتة أن حوار 2016 كان نسخة طبق الأصل من حوار 2011، فكما كان حوار 2011 متقدما على حوار دكار فإن حوار 2016 شكل هو الآخر خطوة متقدمة على حوار 2011، عندما حسم الجدل المتعلق بسن الترشح للرئاسة والمادة الدستورية الخاصة بالمأموريات ومواضيع أخرى لا يتسع المجال لذكرها.
وبناء على هاتين المسلمتين، فإن ما يجعل القول بحتمية حوار آخر وفرص نجاحه مبررا، هو أن حوار 2016 لم يحقق هدفه الأساسي المبدئي التي أوردناه سابقا، ما يعني أنه لن يكون قادرا على حل الأزمة السياسية، لكنه في المقابل أنتج جملة من المخرجات التي تعتبر أرضية خصبة لقيام حوار جديد يذلل آخر العقبات على طريق الحوار الوطني الشامل والتي كانت وراء عثرات 2016، مع ملاحظة أن الحسابات التي ترقى إلى مستوى (المائة بالمائة)، لا مكان لها من السياسة.
إن ما يغرينا بمد المشهد السياسي إلى هذه الحدود القصية وتقديم هذه القراءة المغايرة للنظرة السائدة حاليا، والتي تقوم على فرضية أن عقارب ساعة الحوار قد توقفت عن العمل، ليست "الدفوع" الكثيرة التي تمدنا بها عملية المقارنة السابقة بين الحوارين فحسب، وإنما أيضا كون الأزمة السياسية الموريتانية، بدأت تنتج حلولها بنفسها ومن داخلها، وهذا ما تفعله الأزمات عادة، عندما تترنح وهي في رمقها الأخير.
نوهم أنفسنا دائما بأن حل أزمة ما يجب يأتي من خارجها، بينما يؤكد منطق الأزمات أنها هي بذاتها من يطور آليات الحل من داخلها، حيث تتحول الكثير من الأسباب والسمات التي تذكي تلك الأزمات، مع مرور الوقت، إلى عوامل مساعدة على إطفاء نيرانها وإخماد جذوتها، ولعل هذا المعنى كان حاضرا في ذهن الشاعر وهو يقول:
اشتدّي أزمةُ تنفرجي،
قد آذَنَ لَيلُكِ بالبَلَجِ...
وفي الحالة الموريتانية فإن بعض أسباب وسمات الأزمة السياسية بدأت تقدم نفسها بالفعل كعوامل مساعدة في الحل المنتظر، وكمثال على ذلك فإن معضلة المأمورية الثالثة، التي دعت نفسها إلى قلب الحدث في مطلع العام المنصرم وأضحت جزءا لا يتجزأ من الأزمة، وكادت تعصف بكل شيء، تحولت اليوم إلى عامل لتخفيف الاحتقان وجذب المعارضة المقاطعة، بعدما أفصح الرئيس عن نيته عدم تعديل المادة 28.
كما أن "الحوارات الأحادية" أو غير المكتملة، التي شكلت إحدى السمات البارزة للأزمة، تحولت هي الأخرى إلى أداة مساعدة على وأدها، وأكبر دليل على ذلك هي مخرجات الحوار الأخير، التي بدت في أغلبها "أخوات شقيقات" لممهدات المنتدى، والأمثلة كثيرة لكن المقام يضيق عن حصرها.
وخلاصة القول، أنه سواء تعلق الأمر بالاستنتاجات التي توفرها عملية المقارنة والمقاربة بين الحوارين أو المؤشرات التي تفرزها الأزمة، فإن حوار 2016 سيساهم بدون شك في دفع الأزمة على طريق التسوية، لكنه لن يكون قادرا على حلها، مما يجعلنا نقول بحتمية وضرورة حوار جديد.