استقبلنا السنة الجديدة بكثير من المؤشرات و بقليل من التوقعات، كل الترجيحات ممكنة و كل الاحتمالات واردة..
و لأن جدية التقديرات تحددها مدى صحة قراءة التوجهات الأمريكية، فإنه من الصعب استشراف السياسة المتبعة خلال فترة دونالد ترامب و هو ما يفسر أن أهم ملفات الشرق الوسط مازالت عالقة و قابلة لكل الفرضيات ، فحتى هذه الأيام الأخيرة لإدارة أوباما هي أقرب إلى حالة الركود و الترقب..
إن ضبابية توجهات السياسة الأمريكية هو أهم ما يمكن استشرافه إلى حدود هذه الفترة. و هو ما انعكس على السياسة التركية، التي باتت مؤخرا تجمع التناقضات و توحي بفقدان البوصلة.
* إدارة ترامب: الكثير من التناقض و القليل من الانسجام :
ودعتنا سنة 2016 بمفاجأة من العيار الثقيل تمثلت في فوز دونالد ترامب بانتخابات الرئاسة الأمريكية. هذا الفوز المثير للهواجس لدى الحلفاء و الأعداء على حد السواء يدشن لمدرسة جديدة في السياسة، عنوانها الشعبوية و ما تتطلبه من قلب المعادلات الدولية وفق وجهة النظر “الترامبوية”.
إن كان من الممكن القول أن عصر ترامب هو عصر مدرسة سياسية جديدة، فإنه من الصعب استشراف ملامح هذه السياسة و توجهاتها. فترامب، مثلا، لا يملك رؤية إستراتيجية متناغمة و متماسكة للسياسة الخارجية الأمريكية. و بالنظر في الأسماء المرشحة لتولي المناصب الفاعلة في الإدارة الجديدة يمكن استنتاج التناقض و غياب الانسجام.
المرشح لمنصب وزير الخارجية، ريكس تيلرسون، وافد من عالم المال و الأعمال باعتباره الرئيس التنفيذي لشركة إكسون موبيل النفطية، ينادي بتحسين العلاقات مع روسيا. غير أن ذلك لا يأتي ضمن رؤية واضحة الملامح و المقاربات بقدر ماهي نتيجة لعلاقته الوثيقة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. أما مرشح وزارة الدفاع، الجنرال جيمس ماتيس الذي سبق له أن شغل منصب رئيس القيادة العسكرية الوسطى، فإنه على النقيض تماما من تيلرسون، إذ أنه يعتبر أن روسيا هي خصم إستراتيجي لا يمكن أن يكون حليفا مطلقا.
أما الجنرال مايكل فلين، المرشح كمستشار للأمن القومي و الذي شغل سابقا منصب رئيس الاستخبارات العسكرية الأمريكية و مؤلف كتاب ” ساحة القتال: كيف تربح حربا عالمية ضد الإسلام الراديكالي و حلفائه” الذي ينظر للعداء ضد الإسلام باعتباره التهديد الأبرز “لأمريكا كدولة مسيحية يهودية”، و هو ما يثير التساؤل عن كيفية التعاطي مع الشرق الأوسط بالانسحاب من ملفاته بخسارة الحلفاء التقليديين ( السعودية تحديدا) و دون كسب حلفاء جدد ( إيران تحديدا)، خاصة و أن مواقف ترامب و إدارته ( ماعدا ماتيس) من الاتفاق النووي الإيراني تثير بدورها الكثير من نقاط الاستفهام حول السياسة التي سيتم اتخاذها.
فإن كان ترامب قد دعا خلال حملته الانتخابية إلى تمزيق الاتفاق النووي و هو أمر مستبعد باعتبار أن الاتفاق يعد التزاما دوليا بحكم الأطراف الموقعة (5+1)، فإنه كذلك رفع شعار “أمريكا أولا ” داعيا بذلك إلى تقليص الانخراط في مستنقعات الشرق الأوسط و هو ما يتعارض مع فرضية الخيار العسكري لمواجهة ” العدو الايراني”. و هكذا يبدو و كأن ترامب لن ينتهج لا الخيار التفاوضي/ الدبلوماسي (ما يعنيه الاتفاق) و لا الخيار العسكري. و هو ما لا يمكن فهمه.
من اللافت كذلك أن مؤشرات الصدام داخل أجنحة الحكم بالولايات المتحدة بدأت في الظهور مبكرا جدا، من ذلك ما راج حول أن المخابرات الأمريكية هي التي تقف وراء التقرير المسرب الذي تضمن فيديو جنسي لترامب -أثناء إقامته في أحد فنادق موسكو- سبق أن صورته المخابرات الروسية . وهو ما يعد إعلان حرب مبكرة بين ترامب و الدولة الأمريكية العميقة أو ما يطلق عليها ” المؤسسة” الأمريكية، و ما يعني -بالتالي – صعوبة استشراف توجهات الإدارة الجديدة و كيفية التنسيق و حدود الضغوط بين مراكز صنع القرار و هو ما يفسر، بشكل أو بآخر، حالة التخبط التي تعرفها تركيا المرتبطة سياساتها بالسياقات الإقليمية التي تحددها الولايات المتحدة، و التي إلى حد الآن لا يمكن استشرافها خاصة مع صعوبة استشراف طبيعة العلاقات الأمريكية الروسية.
* ” الاستدارة” التركية…خارج التاريخ و الجغرافيا:
منح الموقع الجغرا-سياسي لتركيا أدوارا مؤثرة في مجريات السياقات الدولية و الإقليمية، خاصة مع أحداث ” الربيع العربي” و ما أوكل إليها من دور لدعم مناطق جغرافية ممتدة تحكمها جماعة ” الإخوان المسلمين” مواجهة بذلك محورا إقليميا تقوده إيران. و هو ما جاء في فلسفة الاتفاق النووي الإيراني الذي سعى إلى إدماج السلوك الإقليمي الإيراني ضمن المعادلات الأمريكية و ما يسمح بتقاسم نفوذ تركي – إيراني تعدل موازين قوته الولايات المتحدة حسب مصالحها ووفق المتغيرات الحاصلة.
غير أن فشل ” مخابر” ” الإسلام السياسي”، جعل الدور التركي يتخبط في منعرجات المسار الإقليمي و تحولت سياسته من ” صفر مشكلات” إلى ” تصريف المشكلات” إبتداءا بفشل ” المشروع الإخواني” في المنطقة مرورا بالعجز عن الإطاحة ببشار الأسد وصولا إلى الخلاف مع الولايات المتحدة حول الملف الكردي إضافة إلى الخلافات مع كل من الاتحاد الأوروبي و “حلف الناتو”، مما دفع إلى الحديث عن “استدارة” تركية نحو الشرق.
و هكذا، فإن الأيام الأولى من هذه السنة، تبدو فيها السياسة التركية مختلفة التوجهات و مبتعدة عن تحالفها مع الولايات المتحدة بقدر تقاربها مع روسيا. هذا التقارب الذي تبلور من خلال اتفاق وقف إطلاق النار في سورية و الذي جاء كنتيجة ( أي الاتفاق) لفشل السياسات التركية في المنطقة.
هذه “الاستدارة” التركية وصلت ” لفظيا” إلى مداها حيث سمعنا تصريحات تفيد بإغلاق قاعدة انجرليك الجوية أمام الطائرات الأمريكية و الغربية، و هو ما يعني أن تركيا مخطئة في تقدير حدود استقلالية دورها و في حجم المناورة التي يمكن أن تلعبها. فعلى امتداد ثمانية عقود، لم تقف تركيا و لا مرة واحدة في مواجهة مشروع أمريكي و لم تبتعد عن المعسكر الغربي و لا عن “حلف الناتو”، لأن الجغرافيا التركية هي التي رسمت هذه الاصطفافات و جاء التاريخ ليؤكدها.
هذه ” الاستدارة” نحو الشرق ما هي إلا حالة تخبط أفرزها فشل سياق ” الربيع العربي” و ما تبعه من فشل للأدوار المحددة لتركيا داخل أطره، ما جعل أنقرة تتجه نحو الدور الإقليمي المستقل و هو ما يتعارض مع مكانة تركيا كامتداد للقوة الأمريكية و كساحة صراع دولي.
لا يمكن لتركيا أن تتحرك بمعزل عما ترسمه لها الولايات المتحدة، مثلما لا يمكن لأردوغان أن يستمر في المبالغة في تقدير حجم قوة بلده و في حجم مناورته. أردوغان في زمن ترامب سيختلف حتما عن أردوغان زمن أوباما..لأن الأدوار ستختلف، و كلما تفاقم الصراع داخل مراكز صنع القرار الأمريكية خاصة في ما يتعلق بمدى التقارب مع روسيا..كلما زاد التخبط التركي.
حنان المنصف// كاتبة تونسية