على “الجبهة الخارجية” لبلاد العرب، أطالع كل يوم وأشهد بيئة عربية تُحْزِن كل صاحب عقل وقلب، فتري مدارس ومستشفيات تُهْدَم؛ وتراث اجيال سبقت يُنْسى، إن لم يصبه الدمار؛ ودياراً تتقسم على أسسٍ رُسِمتْ، بأيدٍ غريبة، جغرافياً وعرقياً وعقائدياً . وتوصد الأبواب أمام الانسان العربي، إدارياً او بفعل وجود حرائق وألغام وقتل ودمارٍ، ماوراء الحدود او عليها. فأنظر الى حَال العربي في سوريا واليمن والعراق وليبيا والسودان … وإلى حال إخوتنا في فلسطين المحتلة ..فحالهم مرٌ مؤلم . ثم أنظر ايضاً الى المواطن في الاردن، فعلى الرُغم من نعمة أمنه وإستقراره، ورغم الحرائق حوله، فهو محاصراً، فَلَم يعد يستطيع، كالماضي ان يعبر على “الارض” من شماله بسيارته الى دمشق، ولا إلى بيروت بعدها ولا إلى الشرق الى العراق، ولا إلى الغرب بيُسرٍ، دون مهانةٍ ومذلةٍ، لزيارة الأهل في فلسطين المحتلة . ولا إلى بلاد عربيةٍ أخرى، دون معاناةٍ . !!
وعلى ” الجبهة الداخلية” لبعض البلاد العربية،فهناك أوضاع لا تسرُّ الصديق، جرت وتجري عليها .فهناك أجيال نشأت وعاشت حروباً داخلية في السبعينات كالأجيال اللبنانية، وفي الثمانينات والتسعينيات في العراق وجوارها؛ أجيال نمت مشدودة أعصابها وتربيتها، نشأت على الآلام والتفرقة والخوف والوجل، وإنعدام الثقة بالآخرين في الدّاخل والجوار وتتعاطى بإستمرار الأدوية المهدئة. واجيال أخري نشأت في بيئات دموية أو دكتاتورية شمولية، أو في بيئات تخلفٍ وقمعٍ، عقوداً طوال، بعضها منذ أواخر الستينيات، كإخوتنا في ليبيا، وسوريا، والسودان… الخ.
كما غلب على البيئة ” الجماعية” العربية ضعف المناعة، وفقدان الذاكرة الوطنية !! فنشأت مجالس تعاون في شمال افريقيا العربية، واخري في بلاد الشام والعراق وأخري في دول الخليج ألعربيه، لكنها لم ترقَ الى الآمال التي عُقدت عليها. فانكمشت مؤسسة الجامعة العربية وتراجعت طموحات مجالس التعاون، وبالتالي بهتت مؤسسات العمل العربي المشترك! فأضحى المواطن العربي الان يعيش بقلق وخوف، في رقع من بلاد تتفتت او مقبلة على التفتت ومستهدفة، على مختلف المحاور الجغرافية والعرقية والدينية! وأضحى عالمنا العربي عوالم وغنائم للآخرين، وترى الشباب يتطلع الى الخارج لتقليد قشور حضارات الآخرين او للهجرة هرباً مما هم فيه ؛ وأضحى المواطن والاوطان، للأسف، ينظر اليه وإليها، كموارد مادية ونفوساً – “غنائم وأغنام”.
كم يُقلِقُني ” سعة “معرفة معظم الشباب اليوم في “فقه الوجبات السريعة “من هامبرغر وكنتاكي فرايد، والكْرِبْ سُوزَييت .. وسطحية وضحالة معرفتهم بمفاهيم تنظيم العلاقة بين الأديان كما وردت في العُهدة العُمَرية عام 638 م، وهي رسالة الخليفة عمر ابن الخطاب الى أهل إيليا – القدس، وما رسخت من قواعد أمان لهم ولأملاكهم ومعتقداتهم !! ناهيك عن شحة معرفة هذا الجيل برسالة عمر ابن الخطاب الى ابو موسى الأشعري – أول قاضٍ في الاسلام بالكوفة وما رسَّخَتْهُ من قواعد في القضاء ورفع راية القانون والعدل – البَيِّنَةُ على مَنْ إدَّعَى، واليمينُ على مَن أنْكر ؛ سَاوِي بين الخصوم ؛ الحَقُّ قديم … الخ،
قد أكون “مبالغاً” هنا، رُغماً من قناعتي بوجود بعض ٍمن ضياءٍ وتَنَوُّر في بعض الديار العربية و عند بعض المسؤولين والعباد. إلاّ أن “المبالغة الهادفة” أحياناً ، قد تنفع المؤمنين، وتُوقِظ الغافلين لتفحُّصِ سُبُل النجاة من الكوارث . لعل وَعَسَى ان يبدأ تدارك الحاضر لأجل مستقبل ما، أفضل .
وبالتوازي مع ما نحن فيه في عوالمنا العربية، فالخصوم والأعداء يسرحون ويمرحون في أجوائنا وديارنا ومقدساتنا في ضوء غفلتنا وشدة بأسنا فيما بيننا . فإختلطت أولوياتنا، وشحب الإهتمام عند العديد منا بحقوقنا في المحتل من ارض العرب في فلسطين وأبعد . وفي ضوء ما نشهد من فضائع، في سوريا واليمن والعراق وغيرهم، فقد أضحى التهجير للإنسان أمراً عابراً لا يهزّنا كالأمس، ويمر دون عقاب أو رادع . بل ان عقيدتنا الروحية السماوية ولون بشرة ابنائنا ولباسهم في أسفارهم، أضحت قرائن شُبهات وموضع سُخرية وهجوم وازدراء وامتحان وعِداء . كنّا نخلع أحذيتنا عند دخول المعابد والمساجد، وأضحينا نُؤمَرُ ان نخلعها و أكثر من ذلك، في المطارات والحدود !! حسبنا الله ونعم الوكيل .
وفي ظل هذه البيئة الخارجية، والأُخرى في أوطاننا وبلاد العرب، من قلق الشباب والشيب ومن خوف من المستقبل ومن الشِّدة والهدم والعنف الجاري،والكساد التنموي وهرب رؤوس الأموال والعقول، “وهندسة الجهل” الداخلية عند البعض، وإساءة إستخدام السلطة في البيت والشارع والمؤسسات والجامعات والمدارس، والإبتعاد عن قيم النزاهة في تلك المواقع الخاصة والعامة، وضعف هيبة المؤسسات والحاكمية فيها ، والضعف في إعلاء سيادة القانون، فإنني أعجب، وبالتأكيد يعجب أكثر مني الأجنبي غيري ، كيف في ظلال هذه البيئة نتوقع سُمُواً في نوعية “مخرجات” التربية والتعليم من البيت والشارع والمدارس والجامعات من اجيال الشباب ، أمام ” المدخلات” في بيئة قلقة، فيها هموم وسموم على الجبهات الخارجية والداخلية ؟؟ إن الجواب مُذهِلٌ وصَادِم!. إن مجرد قراءة بعض معايير العلم والتعليم في بلاد العرب وشواخصه ومؤشراته، نجد ركوداً وهبوطاً في البحث والتطوير، وإنتاج الكتب والتميُّز ، وضعفاً في المناهج القياسية العلمية ومدرسيها في حقول الرياضيات والفيزياء والاحياء والكيمياء والعلوم،(بعض مؤشرات بيزاالتعليمية مثلا ). وهذا شأن مقلقٌ خاصة وان هذه الحقول هي الأساس الذي يهيأ الأجيال، وأيُّ أمةٍ للتعامل بمناعة، مع المستقبل، في عالم هو غابة كلُّها تحدٍ وتنافس . لقد عُوتِب بَعضُنَا حين تلفظ بشفافية، كيف أن لدينا في مجتمعاتنا العربية، “تراكم “شهادات”، لا تراكم ” خبرات وشواخص قِيميَّة.
والأنكى والأَمَرّْ، يظهر جلياً، وصادِماً، حين نتخيل ما نوعية القيادات الشبابية المستقبلية (المخرجات) في المجتمعات القادمة، تلك التي سنعوِّل عليها حمايتنا من اي زلزال إجتماعي قد يلوح في الأفق . إن التخلف بنظري “حالة ذهنية” وليست” حالة مادية” .فهناك مجتمعات وأقطار في وطننا تملك القليل من المادة وتعاني من عجوزات مادية، لكنها تسلك نهجا حضاريا مدَبِّراً حصيفاً لما تملكه من موارد، على قِلَّتها.
واخري مجتمعات وأقطار تملك فوائض في “المادة “،لكنها تعاني من عجز معنوي وضعف إستقامة وهبوط وسوء التدبير، وجميعها لا يحتضن مسوِّغات تضمن وتطمئن على الاستمرارية ؛ هي مجتمعات مقلِّدةٌ متمسكةٌ بقشور غيرها. فالنوع الاول من المجتمعات أعدُّها مجتمعات ناهضة،خلافاً عن الثانية . وترانا بالتوازي، نسمع بعض المسؤولين في بلاد العرب يتنادون بتطوير التعليم ، وهذا شأن وإدراك جيد، لا بأس عليه، إن كان جاداً . فإن ركَّزَ نهج التطوير على “القلّة” المحظوظة ولم يعتنِ “بالأكثرية” المُعْوِزة، بل يتَّبِع سياسات تعليم ومدخلات مناهج جامدة، في مدارس فقيرة، فذلك بنظري، “تحيز سلبيٌ” للسياسات الحكومية نحو الغالبية والأقل حظاً، تاركةً القدرة على الدفع، العامل الحاسم في توجيه الناس للتعلم . وعندئذ فالمحصلة،وبعد حين، تقود نحو هشاشة مجتمعيَّةٍ مزَلْزِله!!. لقد ادركت بريطانيا الآن حصاد سياسة تطوير التعليم المنحازة، حين تركت المجال والحريّة للمدارس والجامعات الخاصة ذوات المناهج المتطورة تلك التي يدخلها فقط من يستطيع، من دخْلِهِ دفع الرسوم العالية،إبتداً من مدارس الثانوية الخاصة، تؤهلهم لدخول جامعات مُميَّزَة كجامعتي أوكسفورد وكيمبرج . لقد أثمرت تلك السياسات ليس فقط خريجين وقادة في المجتمع، بل ايضاً أشواكاً حين تركت المدارس العامة ملجأً لا مناص منه لتعليم أبناء العائلات الفقيرة والاقل حظاً . لقد كان الفقر والإزدواجية في مؤسسات ونهج التعليم ، في بعض مسبباتة نتاج سياسات اقتصادية وإجتماعية “أساءت توزيع الدخل” حين تحيزت نحو قطاع المال والأعمال معاملة وتفضيلاً ضريبيا على حساب العُمَّال والطبقة الوسطى والأقل حظاً، فزادت أرباح أرباب الاعمال على حساب طبقة اصحاب الاجور. ومؤشر ذَلِك واضحاً حين تبيَّنَ، مايقارب 5 % من السكان وهم الأغنياء،يمتلكون 50% من الدخل المحلي الإجمالي. فإختلَّ بذلك ميزان توزيع الثروة ودخل أبناء اهل الثراء المدارس الخاصة، ومن ثم الجامعات الخاصة المُميَّزَة وتخرجوا ولديهم السبقْ في التعلم واللغات واحتلوا الوظائف القيادية في الدولة والشركات، على حساب الاغلبية . فإختل الميزان الاجتماعي بوجود قيادات محظوظة غير متواصلة مع هَمِّ الغالبية في المجتمعات الأقل حظاً، وظهرت الأحزاب المعارضة وعلا شأن تلك الأحزاب وتابعيهم في التحدي للأنظمة القائمه. وما نجاح إستفتاء البريطانيين على قبول الخروج Brexit من الاتحاد الاوروبي، إلا إجماع عام للغالبية المُتضَرِّرَة، وحشد على التغيير، وبمثابة زلزال مجتمعي وثورة للطبقات المتوسطة والفقيرة ضد الرأسمالية وحزبها . وكذلك الحال في إنجاح الشعب العامل وأبناء الطبقة المتوسطة في أميركا وترجيح الرئيس الأميركي ترمب على منافسه في الحزب الديقراطي .و نشاهد كذلك ابعاداً أخرى من حركات يمينية في أوروبا وغيرها ضد الواقع المتحيز للقِلَّةِ الثرية على حساب الأغلبية الأقل حظاً.
إن الوضع في العالم العربي – ما تبقى من عوالمه! – تتصف سياساته الاقتصادية والاجتماعية بأنها في محصلتها، متحيِّزة في توزيع الدخل الوطني والثروة بشكل مجحف فتصنع تلقائيا او بفعل واعٍ، بيئة متحيزة تُخرِجُ قيادات مستقبل، هي مخرجات سياسات وأنظمة تعليم مزدوجة Dualistic، تحتكر الثراء وتُحدِثُ بالتدريج غُرْبَة عند العامة والغالبية، وهي ذاتها الغُربةُ التي تقود وقادت الزلازلَ الاجتماعية في الغرب، في بريطانيا واميركا اليوم، وفي الشرق الأقصى بالأمس. هي صافرات تنبيهٍ لمن يتَّعِضْ. إن برج بيزا التعليمي المايل في المتبقي من عالمنا العربي إذا لم تُجرى عليه مراجعة جادة و تصحيح يلمسة المواطن (فعلياً، لا من خلال الوعود) ، على نظامه التعليمي، وسياساته الاقتصادية باتجاه، عدالة اجتماعية وإقتصادية حقّة، وسيادة للقانون، وحصانة واضحة للإستقامة والنزاهة، وأهلها، وللمؤسسات الرقابية والتشريعية فيه، فالحصاد بديهيٌ ومتوقع ومرسوم ومرتبط بالأسباب. وحينها يبدو جليَّاً بأن الجيل الناشئ في معظمه، لن يكون هناك سيطرة كاملة ولا إعتماد عليه ضماناً للإستمرارية؛ كما ان الأبراج التعليمية المائلة،لا ضامن هناك لوقوفها .و لن توجد قوىً عظمى، في ضوء كوارث التدخلات الماضية، مستعدة ، هيَ وبرلماناتها،،لِتُصْدِرَ بوالص تأمين تضمن إستمرارية لمجتمعات اخرى بعيدة، لا تنهج التغيير والتطوير الداخلي – حمايةً لذاتها. بل ربما تعمل الأنظمة والإدارات والقوى الجديدة الحاكمة في العالم الغربي أُحادياً، أو بالتآلف مع قوىً أخرى تلتقي مصالحها معها ، على إحداث التغيير المرغوب، الذي يخدم مصالحها، وِفْقَ سياسة واعيةٍ، معتمدة، أو عن طريق الإنكفاء والتخلّي، وترك الأمور تَهْوِي تَلقائياً. “ومِنْ مأْمَنِه يُؤتَى الحَذَرْ”، أو “يُؤْتَ الحَذِرُ مِنْ مأْمَنِه” .
الدكتور بسام الساكت