عندما نرى جهات متعددة في السلطة تلُح على نحو متواتر، بمناسبة وبدونها، أن بلادنا ترفل في الازدهار ورغد العيش، تجتاحنا أقصى درجات الدهشة، والشرود الذهني، ثم تصل بنا مرحلة مساءلة الذات عبر مونولوج داخلي هل ما يقول ويكرر هؤلاء منطبق ولو بنسبة الحصاة إلى الجبل على واقع الحال، ونحن نعيش الحال، ونحن الشاهد العيان، هل هو منطبق على بعض جيراننا و أهالينا في محل سكنانا أو أو سكناهم وسكنى من نعرف في بقية مدن وطننا، نسعى بين الجيران والمعارف ونتقصى مدن البلاد من أقصاها إلى أدناها، فنجد الجميع (يحْلَبْ بزُّوله وحده) وعلى شاكلة معاشنا يسيرون إن لم يكونوا أشد منا بؤسا وسوء حال، عندها لابد أن تتوارد على ذهن المرء موجات أسئلة حائرة حادة كنصل السكين: عن أي مواطن يتكلم هؤلاء المفوهون؟ وأي جزء من البلاد يقصدون ؟ الحقيقة أن قولهم صحيح في حالة واحدة حين يكون القصد من كلامهم متعلقا بمجموعة قليلة، لا تزيد نسبتها في أحسن الحالات على واحد في الألف، لم تحصل على رفاهيتها وترفها الباذخ بجهدها ولا بذكائها ولا عملها، كما لم يتركه لها الآباء ( فدبشْ)، لكنها حصلت عليه بما ينتجه البنك المركزي من الأوقية وما يجلبه الحديد والسمك وبقية ثروات البلاد من العملات الصعبة، وما يسجل على أجيال البلاد الحالية والقادمة من ديون، أو قُدِّم لفقرائها من هبات، أخذته هذه الطبقة بغضه وغضيضه وتركت ( الزمكة) للآخرين، وتركتهم ـ وهي في كامل راحة بالها ـ يتقاسمون العدم والبؤس.
فيئة يوحد بينها سلوك مشترك ولغة مشتركة ، يبدأ الأمر حين : يبني واحد منها دارا في الجزء الشمالي الغربي من العاصمة، ( تفرغ زينه) يسميها دارا وتسميها بقية سكان البلد قصرا منيفا، يتكون القصر غالبا من عدد لا نهائي من الغرف والممرات، موزعة بين الطابق العلوي و الأرضي، ويكون تصميمها على شكل مجموعة أجنحة كل منها معد لاستضافة سكان القصر ليوم واحد، فهم في حال مكوثهم داخل جناح لأكثر من يوم يصيبهم السأم ونكد الرفاهية، مع العلم أن عطلتهم الأسبوعية يقضونها في قصر آخر مجاور لمدينة انواكشوط، ويمضمون عطلتهم الربيعية في لاس بالماس أو باريس أو بلباو أو الباهماس، أما الصيفية فيقضونها في تجوال بين القارات ومطاردة الموضة في اغلى محلات التسوق العالمية.
لا يحتاج المار قرب قصور تفرغ زينة، إلى الكثير من سعة الخيال والاطلاع ليعرف أن بها حدائق غناء مليئة بالزهور والأشجار المثمرة أو المستوردة لجمالها فقط، سكان القصر يفضلون تسمية الحديقة "جرديه" ولو أن اغلبهم أميون لا يكتبون ولا يقرؤون بهذه اللغة ولا بغيرها، وربما ضمت (جرديه) أحيانا نواة مكتملة لحديقة حيوانات: النعام والغزلان والطواويس وربما وحيد القرن!!، إلى جانب مسابح لسكان القصر وحيوانات حديقتهم، كما يتسابقون باقتناء كلاب حراسة ألمانية يحتاج واحدها في معاشه اليومي إلى توفير كيلوكرامات من اللحم الخالي من العظام. يحيط بالقصر ويعمل داخله جيش مستقدم من وراء الحدود: حراس، بستانيون، طباخون، أما نحلة عيش سكانه فتخضع لضوابط غير ضوابط معاش سكان البلد، يعتبرون لحم السوق غير صالح، و مسالخه غير مضمونة، وكذلك جودتها، كما هو حال الفواكه والخضروات المعروضة في البقالات والأسواق لكونها من وجهة نظرهم استقدمها الموردون من الخيار الرابع أو الخامس وليست مناسبة لأطباقهم. اللحم المناسب لمعاشهم، بعدما كان ضأنا كل يوم، صار بعيرا كل اسبوع، واخيرا تحول إلى جدي للصباح وآخر للمساء تجنبا لتراكم الكولوسترول، دون أن يمنع ذلك طموح بعضهم لخروف ( مُرَكَّمْ) أو غزال مشوي أو طائر حبارى مستجلب في المبردات من ظهر النعمة أو ولاتة أو تيشيت.. تقتتص لذته ويتبجح به خلال أيام الأسبوع التي يأتي فيها زوار (المغالبة ) في مظاهر الترف والبذخ والمتعودين على أنماطه. اما المواد الغذائية فيتم استجلابها من بقالات عواصم دولية وتشحن جوا مهما كانت كلفتها إلى ثلاجات البيوت ومخازنها .
بيوت هؤلاء لا تجمع اصحابها مع مواطني بلدهم حالة ولا مصلحة، ولا لغة مشتركة، ولا عادة غذائية... حالتهم الترف، وحالة شعبهم البؤس، مصلحتهم السكون والاستقرار ومصلحة شعبهم التغيير. لغتهم الرضى والحبور ولغة شعبهم التمرد والرفض!
حزب الصواب