قال محدثي بهدوء ودراية، وهو إطار كبير سابق بوزارة الصيد، السنغاليين منذ قرابة مائة عام يصيدون في الشواطئ الموريتانية، وكنا زمن معاوية بعد اعتقال بعضهم أحيانا من طرف القوات البحرية الموريتانية، نحيط علما الرئاسة بالأمر، وبعد فترة غير طويلة تتحرك الحكومة السنغالية طالبة الشفاعة في مواطنيها، وتأمر الرئاسة الموريتانية في المقابل بإطلاق سراح المخالفين ورد وسائل صيدهم المتواضعة.
هكذا حكمة الرئيس معاوية وبراغماتية ولف السنغال، العرق الزنجي الغالب على تشكيلة الشعب السنغالي الشقيق المجاور.
ورغم هذا لم يسلم معاوية ولا نظامه ولا بلده من الاستهداف من طرف السنغال.
حيث زرت السنغال سنة 1987، لحضور نشاط مخيم إسلامي في داكار، أقيم وقتها في مركز تابع للجامع الكبير، الذي شيدته المملكة المغربية، وهو جامع مشهود مشهور، وقد تم المخيم بتمويل سعودي (الندوة العالمية للشباب الإسلامي) وبإشراف سنغالي، عبر جمعية عباد الرحمن المقربة من الخط السلفي و الاخواني.
وكان حينها حبل الصلة وديا ولو ظاهريا، بين الإخوان والسعودية، وقد كنت ضمن الشباب المشاركين إلى جانب عدد من الشباب تحت يافطة الجمعية الثقافية الإسلامية، وبمشاركة ست دول إفريقية، بالإضافة إلى السنغال الدولة المستضيفة.
وفي إحدى الصالات المفتوحة الجانبية، في جو من النقاش لفت انتباهي شابا سنغاليا، يتكلم حينها بأسلوب مفحم بروح الجدل ضد موريتانيا بوجه خاص، وفي أقل من سنتين انفجرت أحداث 89، التي أضرت بالجانبين، السنغالي والموريتاني، حين قتل الكثير من مواطني كلا البلدين.
هذا الاستطراد يدل على خطورة الشحن الإعلامي، الذي نعيشه اليوم بشكل محدود، من خلال بعض وسائل الإعلام السنغالية.
أقول بصراحة، لا نرد بالمثل إلا عند الضرورة القصوى, فنحن والسنغال باختصار، وجهان لعملة واحدة، بحكم الإسلام والجوار والحدود والعوامل الطبيعية والعرقية والأخوية والمصالح المتبادلة التي لا يمكن تجاهلها.
لكن ما يجري الآن من سوء تفاهم إثر أحداث غامبيا، لا ينبغي التقليل من خطورته.
فإن تمكنت الجهات المعنية، وخصوصا على الصعيد الرسمي، الموريتاني والسنغالي، من تجاوز أزمة الصيد التقليدي المعطل بين البلدين في الوقت الحاضر، للأسف البالغ، فإن موضوع وملف الجوار عموما والسنغال خصوصا، بحكم المعطيات الراهنة، جدير بالحذر والحنكة البالغة، فلا المجال مفتوح للتصعيد والتلاعب بمصالح موريتانيا وحرماتها.
ولنعلم أن جيوبا مثل ايرا وآخرين لهم دور سلبي على رأي البعض في التوتر الحالي.
ومهما كانت قداسة حرية التعبير، فإن إفساد علاقات الدول المتجاورة أمر ليس بالهيّن ولا البسيط، تحت طائلة أي مبرر أو ركوب موجة أو استرزاق مكشوف، بقضايا حقوقية أو مفبركة في جانب منها.
إن النظام القائم في موريتانيا، مهما كانت عيوبه ليس نظام شريحة واحدة، وإنما بمستوى مريح نسبيا في وضع يسمح بالتعايش بين جميع مكونات المجتمع الموريتاني، والوحدة الوطنية خط أحمر، ومن أخطر خلفيات أزمة الصيد التقليدي والتوتر العابر بإذن الله بين الجارين المتشابكين المتعازين، استغلال المتطرفين من كلا الضفتين، لمثل هذه الأجواء العادية، للولوج لا قدر الله إلى فتنة واسعة قد يصعب التحكم فيها لاحقا.
إن بعض أبقارنا وإبلنا ترعى عندهم وجاليتنا معتبرة العدد هناك، وهم كذلك يصيدون بطرق ملتزمة أو غالبا على خلاف ذلك، ولهم يد عاملة كبيرة في القطاع غير المصنف وفي القطاعات الأخرى، ولهم احترام كبير بيننا، فلا داعي لتخويف جاليتنا ولا جاليتهم.
فعلاقاتنا وإياهم قضاء وقدر بإيجاز، وينبغي أن نعمل على التكيف مع ما تفرضه الجغرافيا والتاريخ والمعتقد الإسلامي المشترك لله الحمد والمنة.
إن تيار الاعتدال أكبر وأقوى لدى الموريتانيين والسنغاليين، مما قد يدعو إليه البعض من الاستهداف، عندنا أو عندهم.
وإذا كنا نعي بقوة هذا الاعتبار الحيوي الملح الهام، فإن الطرف السنغالي بحاجة للحذر العميق الكامل من تأثير بعض المتساهلين ونحن مدعوون لنفس الشيء، حتى لا نقع جميعا في ما لا تحمد عقباه .
فنحن كما جرب عند اللزوم، لسنا ثمرة يانعة سهلة الابتلاع فحسب.
فالدعوة للأخوة والتسامح فقط عندما يكون الطرف الآخر مدركا لأولوية الجوار التجاور الإيجابي، أما عندما تعلو كفة الحماقة والكراهية لا قدر الله، فلكل مقام مقال.
و لا نمل من التأكيد على ضرورة حرص كل الرشداء من كلا الطرفين على الاستمساك بعروة السلم والتعايش الايجابي الراقي.
وعلى ضوء ما حدث بالأمس ـ رسميا ـ من التوجه والسعي لحل أزمة الصيادين التقليديين السنغاليين، يتكرس صوت العقل والواقعية والتفاهم، وهو المسار المطلوب بإلحاح، في حساب التعقل والأخوة والصلة الوثيقة بين الشعب الواحد في دولتين، نرجو أن تتفهما بقوة دواعي تغليب المصلحة على الطيش.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.
بقلم عبد الفتاح اعبيدن