بفعل حذري من مخالطة الناس والابتعاد عن مجالسهم الخاصة لم آخذ أي خبر عن الأمور الخطيرة التي كانت تجري في المخيمات والمراكز إلا بعد أن طفت على السطح و أصبحت حديث البشر والحجر وكادت تجتث كل شيء من جذوره ولم يعد من سبيل لإخفائها ، ذلك أنه في سنة 1988 كانت الخلافات الصامتة بين أجنحة قيادة البوليساريو قد بلغت ذروتها ويبدو أن كل طرف كان يخطط في صمت ويؤطر داخل المخيمات لصالح معسكره إلى أن حانت ساعة الصفر فأعلنت استقالات جماعية على كل المستويات وفي كل القطاعات وأعلن الجناح المتمرد الذي كان من أبرز متزعميه عمر العظمي وعبد القادر الطالب عمر حكومة موازية للحكومة القائمة وتوج هذا التمرد باندلاع المظاهرات التي عمت أغلب المخيمات وتم خلالها تكسير الإدارات والعبث بمحتوياتها خاصة في مخيم الداخلة ، وأمام هذا الانفلات أعلنت القيادة حالة الاستنفار الشامل وأنزلت فرقا عسكرية إلى المخيمات لقمع المظاهرات والتي رفعت فيها شعارات قبلية بعضها يتهم إحدى القبائل بالاستبداد وإقصاء الآخرين وهو أمر كان يعتبر في منتهى الخطورة طبقا للعقيدة التي كانت تروج لها القيادة والتي تعتبر القبلية – نظريا - قنبلة موقوتة تتهدد مشروعها . وبعد أن أخمدت المظاهرات بدأت الاعتقال تطال أعضاء الحكومة الموازية وكل الذين أعلنوا الاستقالة .
وكان من نتائج تلك الأحداث المضطربة أن استقال أو اعتزل مدير مدرستي الذي شعرت معه بالأمان فأحسست أني أصبحت كاليتيم على موائد اللئام حيث أن " ميسم " العمالة مطبوع على جبيني وسجني خلع بابه كي يبقى مفتوحا في انتظار عودتي والرجل الذي كان يعطف علي أبدل ببدل أعور وحل محله من لا يملأ ذلك المحل فجيء بمدير جديد لم يخيب ظني في ما كنت أخشاه من أن تجرفني موجة من موجات ذلك الصراع المسعور، وكأن ما عانيته في الماضي لا يكفيني فقد بدأ المدير الجديد ( البشير لهداد ) باتهامي باستعمال القماش الأحمر كستائر لنوافذ الغرفة التي أسكنها مع بعض المعلمين ، ورغم أن لا علاقة لي بوضع تلك الستائر إلا أن التهمة كانت كافية ليقرر حرماني من العطلة فاللون الأحمر معروف أنه لون العلم المغربي وفي تلك الأثناء قيل إن بعض النسوة قد حملن العلم المغربي خلال المظاهرات التي شهدتها المخيمات للتعبير عن سخطهن على القيادة ، وأنا "متعهد الحكومة " على رأي الفنان المصري عادل إمام في مسرحية (شاهد ما شاف شي حاجة) فكلما كانت هناك تهمة لا يوجد من ترمى عليه يتم تقريبي من المربط لأسرج بها ، ويبدو أن إشارة بموضوع القماش الأحمر قد أرسلت إلى مركز الاعتقال الذي يجاور المدرسة فتم استدعائي أو على الأصح اختطافي إليه ليلا ليتم التحقيق معي حتى الفجر وكان المحققون هذه المرة كرماء معي فلم يعذبوني واكتفوا بعصب عيني وقد علق في ذاكرتي صوت أحدهم عرفت لاحقا بعد أن رعى الحمل مع الذئب أنه عبد الرحمن ولد بوه المعروف بلقب (ميتشل) والذي كان بعض الضحايا في معتقل الرشيد يلقبه بالرب حيث كان يعذب الضحية حتى يقول بأنه هو ربه ، وقد آلمني أن أول مرة رأيته بعد ذلك وتعرفت على صوته كان معي أخوه الأصغر من الأم يدعى الرايس وكان أحد تلاميذي ودرس معي في المدرسة نفسها بعد أن تخرج وكان يكن لي الكثير من الاحترام وقد تأثر كثيرا حين أخبرته بالموضوع حتى أنه بكى ولم يستطع أن يكمل معي الطريق حيث كنا متجهين من مخيم آوسرد إلى مخيم العيون الذي يبعد بعشرات الكيلومترات فعاد أدراجه ومن يومها لم يحمل طبشورا والتحق بجبهات القتال وتمضي السنون ليزورني في مقر عملي بانواكشوط كي يعتذر لي مجددا ويخبرني بأن أخاه الأكبر حذره من مصاحبة من يبيت هو يعصر البصل في عيونهم.
يتواصل ......