أحمد ولد أحمد عيشه (من منصة التوحيد إلى غار في الرشيد) رمى كل شيء خلفه ، المستقبل الدراسي الواعد ، العائلة ذات النفوذ والمكانة المرموقة في وسطها الاجتماعي والتي خرجت منها أول وأقوى وزيرة موريتانية ومنها ظهر أكبر جراح تجاوزت شهرته الوطن بفضل نجاح العمليات الجراحية المعقدة التي كان أول من تجرأ عليها، كل ذلك لم يثن أحمد ولد أحمد عيشة عن سماع نداء الضمير.
ويلتحق بالبوليساريو ضمن قوافل الشباب الموريتاني دون أن يتصور أن ذلك القرار هو الخطوة الأولى له نحو مصير أسود دام لأكثر من سبع سنوات تجرع خلال كل مرارات العذاب وهوانه على القتلة ليعود من عالم الأموات وقد جرب فيه الجلادون كل ما يخطر على البال من أساليب التعذيب الوحشي وليس أقلها فظاعة كونهم حولوا جسده إلى ما يشبه الغربال من خلال الكي بالنار .
حين أنهى أحمد فترة التدريب الأساسي في معسكر 12 أكتوبر لم يكن يساوره أدنى شك في أنه سيلتحق بجبهات القتال وهو القادم من أسرة عسكرية بالفطرة وكان شابا قوي البنية يتمتع بلياقة وهيئة العسكري المثالي ، غير أنه تم اختياره لممارسة التعليم وهو أمر كان مبررا بسبب الخصاص الحاصل في هذا المجال والجهد الثاني بعد المجهود الحربي كان موجها لبناء منظومة تعليمية تحتاج إلى أن يؤطر فيها كل من له أي مستوى تعليمي يكنه من لعب مدرس بغض النظر عن اختصاصه أو تكوينه ، وقد ظل أحمد يعمل كمدرس إلى أن تم تحويله فجأة إلى حارس مسلح عند بوابة المدرسة رفقة كل من المرحوم محمد محمود ولد الزحاف ومحمد ولد علي ضمن الخطة التمهيدية لمسرحية الشبكة الموريتانية وذلك من أجل إعطاء الانطباع بخطورتها بحيث أن عناصرها استطاعوا التغلغل في كافة المصالح بما فيها الأجهزة الأمنية التي تتبع لها الحراسة التي تم تحويل صاحبنا إليها رفقة زميليه اللذين سيجمعهما معه معتقل الرشيد الرهيب الذي يعتبر من المسالخ البشرية القليلة التي تهز العالم لفظاعة ما تم في أقبيتها من أعمال إجرامية .
حين بدأت الاعتقالات التي استهدفت الموريتانيين كانت المحاضرات والندوات والمهرجانات تنظم بشكل يومي وفي كل المراكز للتوعية حول مخاطر الشبكة المزعومة وضرورة " وحدة الشعب " لإبطال مخططاتها التي تهدف إلى إفشال " الثورة " ، وخلال واحدة من تلك المحاضرات أخذ أحمد الميكرفون و بدأ مداخلة حول الموضوع المطروح للنقاش وقبل أن يكمل حديثه عن ضرورة الحذر والتوحد في وجه المخاطر نودي عليه بأن أحدا ينتظره في الخارج فخرج ولم يعد إلا بعد أكثر من سبع سنين ، إذ لم يكن ذلك الذي ينتظره في الخارج سوى زائر من زوار الليل ، وكان اعتقاله بذلك الأسلوب التراجيدي مقصودا لبث الرعب في قلوب الناس و لإثبات الشعار الذي حمل في تلك الأيام بأن المندسين يدافعون في العلن عن المصالح العامة للتغطية على ما يخططون له من تخريب ، وحتى أنهم أعطوا " المندس " من الصفات المتناقضة ما يدعو للسخرية والشفقة فهو بالنسبة لهم يجمع صفات الإخلاص والخيانة والنشاط والكسل وقد ذهب البعض إلى القول بأنهم ليسوا بحاجة للبحت عمن هو المندس لأن لديهم قيادة رشيدة إن قالت بأن أي شخص مندس فهو كذلك ، الشيء الذي يجسد الصورة الحية للاستبداد وتغييب العقل والمنطق .
بعد مظاهرات 1988 وتحقيق واحد من أهم مطالبها بالإفراج عن المعتقلين لم يكن أحمد من بين من طفوا على سطح القبور مما يعني احتمال أن تكون قد تمت تصفيته كغيره من الذين تأكد أنهم قضوا تحت التعذيب مثل محمد موسى ولد المختار ،محمدن ولد أحمد يامر ، باب ولد الشيخ ، محمد فال ولد أبهاه ، عالي ولد آشليشل ، بونا ولد العالم ، الشيخ ولد يرعاه الله ، عبد العزيز ولد هيدالة ، أمان ولد لكويري ، تغرة ولد باباه ، محمد ولد الناجي ، الحاج ولد طينش ، أكبيري ولد أعلية ، لكهيل ولد الحيدب ، وغيرهم كثيرون . غير أن أخبارا تسربت بأنه محجوز في مكان سري لمعالجته من بعض آثار التعذيب البشعة على جسده ، وأن ذلك جاء بعد تهديد من أخته التي التقت في الجزائر بوفد نسائي تابع لقيادة البوليساريو مشارك في مؤتمر لاتحاد نساء البحر الأبيض المتوسط قالت لهم فيه أنها ستلجأ للمنظمات الدولية في حالة المساس بسلامة أخيها بل إنها التقت بشخصيات في النظام الجزائري ومنهم على الخصوص عبد الحميد مهري الأمين العام لحزب جبهة التحرير الجزائري الحاكم ، كما أن أخاه الدكتور محمد رحمه الله طرح قضيته على الجزائريين خلال مشاركته في مؤتمر لاتحاد الأطباء والصيادلة العرب في الجزائر ، وقد أسفرت تلك الجهود عن إطلاق سراحه بعد أن اتثني لتصفيته نظرا لبشاعة آثار التعذيب على جسده . وقد عاد ليجد أن زوجته وأم ولده البكر قد أجبرت على تطليقه بحجة أنه أصبح في عداد الأموات وأنجبت من رجل آخر .
وإذا كان الوطن قد أنصف الابن ليصبح ضابطا مرموقا في الجيش الموريتاني فإنه لم ينصف الأب الذي أمضى فترة بعد عودته يرى كل يوم جلاديه وهم يزاحمونه في شوارع وأزقة وطنه وكأنه لم يتغير غير المكان فاضطره ذلك للتوجه إلى المغرب بحثا عن المساعدة في كشف المسؤولين عن الفظائع التي تعرض لها أمام العالم ومحاسبتهم إلا أنه يرى أن العناية التي كان يتوقعها لم يجدها مما جعله يشعر بوقع الظلم أكثر من السابق .
يتواصل .......