حديث السبت.. من البوسنة إلى طنجة: أرصفة ضدّ الطائفية وأشياء أخرى | صحيفة السفير

حديث السبت.. من البوسنة إلى طنجة: أرصفة ضدّ الطائفية وأشياء أخرى

سبت, 25/02/2017 - 13:16

ـ1ـ
سراييوفو ، ساحة الحمام
نافورة ساحة الحمام (سبج) تتوسط المدينة العتيقة التي يعود طبعًاً وجهُها العثماني هذا إلى تأْسيسِها في القرن الخامس عشر (بدأ “خسرو بك” تشييدها ثماني سنوات بعد فتح القسطنطية).
المارّة يتبخترون في طرق وممرات لا تزاحمهم فيها عجلاتٌ ولا عرباتٌ وهم ينتصرون دون غموض لإرادة الحياة. ينتصرون لها رغم أن آثار القذائف، مثلاً، لمْ تختفِ تماماً من واجهات بعض المباني. مِنْ هنا انطلقتْ كما هو معروف الحرب الكونية الأولى وهنا تتالتْ ساعات حصارٍ الألف يوم في التسعينات، أيْ في آخر حربٍ تعرفها أوربا. ولكنَّ شيئا ما جميلاً يبدو وكأنه ينتصر على شهوة الدم.
تتعاصرُ بأريحية أكشاكُ البازار المعمّرة ورائحة العطور الباريسية الوافدة وألوان المقاهي التركية الناجية وواجهات بيوت “خسرو بك” الملتحفة، حجارةً وخشباً، بستة قرون.
السوق الرئيس الذي أعطى اسمه (باشارشيا) للمدينة العتيقة يستعيدُ بعض ذكرياته الأولى مع المجوهرات والأقمشة والتوابل. كلُّ شيء هنا يُصرّ على طيّ صفحة التسعينات الأليمة. المقيمون كما العابرون والسواح يأتون من كل جهات المدينة كأنهم يريدون أن تلمسَ أقدامُهم أثرَ الخيول والخيول المضادّة في تعاقبها على هذه الأرض الفاتنة والعنيدة. كأنَّ حركة الناس التي لا تهزمُها ساعات الليل الأخيرة ولا لحظات النهار المبكّرة تريد أنْ تتفاءل بهذا الحمام الذي ظلَّ يُصرُّ على أنْ يغرف بين الحزن والحزن ماءً نخيلياً لمْ تثنه العقودُ والدموعُ عن التمنّع في إبريق فضّة “أمينة” (قصيدة الشاعر البوسني “اليكسا شنتيش” الشهيرة، والتي أصبحتْ منذ أكثر من قرن أنشودةً عابرة للغات).
الحمامُ الأبيُّ ظلَّ يُصِرُّ أن يتغنى مع “اليكسا” بجمال ضفائر ليلاه البوسنية في مجرّات “رائحة الزنابق الخضراء”. يُصِرُّ على أنْ يتبادلَ الغزلَ الأندلسي مع هذه الجبال الآسرة التي تتدثّرُ بالسحب حتى تخفي بعضَ جراحها.
هكذا تزداد “قدس أوربا”، كما تلقّبُ سراييفو، اعتزازاً بتعانق مساجدها وكنائسها ومعابدها، بتنافس الضفائر العثمانية فيها مع الجدائل النمساوية والمجرية. كأنّها تبعثُ حبراً كابتساماتها الصامتة إلى المعري وابن العربي وابن سبعين، وتضمّ إليها على عجلٍ كلمةَ سرٍّ مبصومةً إلى ابن رشد وابن ميمون والأكويني.
فسراييوفو لا تريد للحبّ فيها أنْ يكونَ محضَ “قوسٍ قزحٍ من الدموع″ كما يقول شاعرها موسى شاتيش. بلْ تريدُه أنْ يكون، أيضاً بما يشبه عبارة شاتيش، الاسمَ الآخر لأشعّة الشمس البديعة واللانهائية التي تمنحها السماءُ السمحة لكلّ الزهور الثملة، قوةً ونسغاً، بهذه الشلالات العالية، بهذه الألوان الياسمينية، بهذه الظلال الكستنائية التي تتغني مع “والت وايتمان” على السعف المورق “الذي ليسَ أقل شأناً من رحلة عمل للنجوم”.
ـ2ـ
طنجة، جدران زرقاء على شاطئ مضيق جبل طارق
أنْ تَزورَ طنجة يعْني أوّلاً أنْ تشربَ فنجان شايٍ ساخنٍ بالنعناع في مقهى الحافة. الشواطئ الإسبانية كما المغربية تلامس أطراف الفرجة. هلْ هذه صورة نمطية؟ لا تخلو على الأقلّ منْ معنىً هنا لدى هؤلاء الجالسين الحالمين. تبدو لؤلؤة المضيق وفيةً لطموحِها في السَّهرْ. عرفَتْ قرونا قبْلَ مِيلاد الخَيام كيف تُنشد معه “فما أطال النوم عمراً … ولا قصّر في العمر طولُ السهر”.
طنجة البحر والبر. ذلكَ ما يبدو أن اسم المدينة عَنيهُ لغوياً إذا صدّقنا أن اسمَها يعود إلى العهد الفينيقي المؤسِّس (القرن الخامس قبل الميلاد). كأنها نوتْ منذ البداية أنْ تُصبحَ عاصمة موريتانيا الطنجية، وهي تمنحُ ابتسامةً للضفة الأوربية للمضيق وأخرى للذكريات الصحراوية. لمْ يبقَ من ذلك العهد إلا آثار وأطلالٌ تشهدً أن طنجة ظلتْ بفينيقيتها تَخرُجُ من رمادها.
أما الحُصَري فيتساءل في طريقه من القيروان إلى طنجة : “يا ليلُ الصبّ متى غده … أقيامُ الساعةِ موعدُه”. السؤالُ الرديفُ يلحُّ منذ ثلاثة عشر قرناً: أي صخرةٍ أو غيمةٍ أو موجةٍ ألحّتْ على طارق بعبور البحر؟ لنتذكّر هنا أن المعتمد بن عباد ربّما عنيَ الثلاثي الطنجي، بول بولز ومحمد شكري وجان جَنِي، بأبياته المترعة ألماً : “شُعراءُ طَنجَةَ كلِّهم وَالمَغرِبِ … ذَهَبوا مِن الإغراب أَبعَدَ مَذهَبِ”. ولعلّ ذلك ما أدركتْه جرترد ستين وهي تريد لمدينة السُّفَراء أنْ تشفعَ ولوْ عنْ بعد لجيمس جويْس وأزرا باوند وهمنغوي وكُـتّاب “الجيل الضائع″ في مونبارناس وسين جيرمين دَبْري ولرفقائهم الرسامين في مونمارتر شمال باريس : بيكاسو وماتيس وسيزان والآخرين. أصرّتْ أن تجمعهم عبر “العدوتين” بصديقها بول بولز الذي يزعم أنّه سمع عنها هي وجيمس جويْس ـ عقداً قبلَ أن يلتقيهما في ضفاف السين ـ من أستاذته في الإنجليزية وهو ما زال تلميذاً في الثانوية. قرونٌ تسعةٌ تَفصلُ الأخيرَ وأصحابَه عنْ ابن عبّاد إلّا أنهم أَحرَقوا الزمنَ معَ ما أَحرقوا من سجائر وكلمات وأشياء أخرى في المقاهي المنتشية. فنكبةُ طارق بعد أن استدعتْه دمشق لم تكنْ بأقلّ بشاعة من نكبة المعتمد حين استُقدم إلى طنجة ثمّ إلى أغمات.
الشاعرة فيرونيكا أراندا التي جعلتْ “مقهى الحافة” عنواناً لأحد دواوينها كتبتْ : “حفلات ضخمة حتى الفجر … أرى الأساطير تموت، أفكّر في طنجة، أرتاح في شرفات مقهى الحافة، المعلّقة على البحر، في يوم صيفي”.
قد تعني أراندا بالأساطير تلك الأسماء التي استَنفرَتْ في ديوانها (بول بولز، محمد شكري، كيرواك، تينسي وليامز، آلن غينيسبرغ، خوانيتا ناربوني إلخ). وهي أسماء لا تُطيق أنْ تموتَ إلّا قليلاً لتَحتفي كثيراً مع الزيزفون الشطّي ـ مع ظلال الزيزفون كما تقول أراندا ـ بعروسِ شمالٍ تتباهى أساطيرُها الفينيقية بأن البحرَ والبرّ تزوجا فأنجباها.

د. بدي ابنو* مدير معهد الدراسات والأبحاث العليا في بروكسيل