الشعبوية ليست إيديولوجيا، بل استراتيجية للاستيلاء على السلطة والمحافظة عليها. وجدت دوما، لكن بزغت بقوة مؤخرا، تقوت بالأنترنت وإحباط المجتمعات المرتبكة، أمام التغيرات المتمثلة في التهميش الاقتصادي، والتهديد الأمني الضاغط، وما يخفيه الغد المجهول.
إحدى مفاجئات الشعبوية في توحد بنية خطابها رغم اختلاف الزعماء والدول التي انتصرت فيها. تسود اليوم في روسيا بوتين، وأمريكا ترامب، وتركيا أردوغان، ورومانيا أوبران، من بين دول أخرى، وفيها نرى توجهات أساسية.
فرق تسد
الزعيم وحكومته يتمظهران كالمدافعين عن الشعب النبيل المهمش، المسحوق والمنتهك. الشعبويون يتغذون من: نحن ضدهم، الشعب ضد الزمرة النافدة، النخبة والأوليغارشية، الواحد من المئة، أو أوروبا ضد بروكسيل، وأمريكا ضد واشنطن. الشعبويون الأكثر توفقا هم فضلاء في فن تسعير الانقسامات والصراع الاجتماعي بين الطوائف العرقية والدينية والجهوية والوطنية، وكل قطرة يمكن تحويلها إلى طوفان نقمة، وغضب سياسي. لا يخافون اللعب بالنار، وإذكاء الصراع الاجتماعي، بل يعتاشون على ذلك. نزع الشرعية عن المعارضة وتجريمها، تهويل الوضعية السيئة في البلاد، وضرورة تضخيم المشاكل، لب الخطاب الشعبوي؛ أن كل ما قام به الحكام السابقين سيء وفاسد وغير مقبول، البلاد في حاجة إلى تغييرات حازمة وعاجلة، والزعيم يتعهد بإجرائها وكل من يعارضون لا يتم التعامل معهم كأبناء البلد، ذوي أفكار مختلفة، بل كالبدون (sans nationalité) يجب محوهم من على الخريطة السياسية.
تجريم المنافسين
تكتيك مشترك لدى الشعبويين والمستبدين، واحد من العملات الأكثر رواجا في حملة ترامب: اسجنوها: التهديد بسجن هيلاري. في روسيا، مصر، تركيا وفنزويلا، لا تكون التهديدات ضد زعماء المعارضة مجرد شعارات.
شجب المؤامرة الدولية
الشعبوية تحتاج إلى أعداء خارجيين، حجة قديمة للأسف تعطي للسياسيين أسهما على المدى القريب، لكن تنتهي بعد ذلك إلى مآسي. العدو الخارجي يمكن أن يكون دولة: بالنسبة إلى ترامب الصين والمكسيك مثلا، أو مجموعة: أوبران رئيس حكومة هنغاريا صرح: "المهاجرون مغتصبون، سراق مناصب شغل، وسم لهاته الأمة"، شيد جدارا لتركهم خارج بلاده. بالنسبة إلى بوتن: "أمريكا كانت وراء الثورات الملونة التي هزت أوروبا الشرقية ووصلت أزقة موسكو سنة 2011"، ويشجب باستمرار الحلف الأطلسي.
بتواتر الأعداء الخارجيين يقدمون كحلفاء للمعارضة الداخلية، أردوغان شرح أن انقلاب السنة الماضية الفاشل كان من توجيه فتح الله غولن، رجل الدين المقيم بأمريكا الذي يتوفر على قاعدة أتباع كبيرة بتركيا، بمساعدة عسكريين أمريكيين.
الشعبويون عندما يفقدون السيطرة على الأوضاع الداخلية، يتجهون إلى خلق صراعات دولية للتمويه والالهاء. وهذا خطر كبير بما يعنيه وجود ترامب كقائد عام للقوات العسكرية الأمريكية، القوة الأكبر في تاريخ البشرية.
ازدراء الصحافة
الانتقاص من قيمة الصحافيين والخبراء؛ "هذا البلد تعب من الخبراء"، هكذا يرد مايكل غوف، أحد زعماء البريكست، على دراسة مفصلة قدمها عدد من رجال الاقتصاد تبيّن الثمن الكبير الذي ستدفعه بريطانيا إذا غادرت الاتحاد الأوروبي.
بالنسبة إلى ترامب، التغير المناخي مؤامرة صينية، لا يهم إن أكد آلاف العلماء ذلك. ويعتقد أن مرض التوحد ناتج عن اللقاحات ويصر على ذلك رغم أنها نظرية خاطئة بالكل.
لكن الاستخفاف الذي يكنونه للعلوم، للمعطيات والخبراء، لا شيء مقارنة بازدرائهم للصحافة، الذي قد يصل إلى السجن والاهانة الجسدية، وفي بعض الحالات إلى الاغتيال. في الواقع إن الصحافيين والخبراء يتحصلون على معطيات ويوثقون أوضاع تتصادم مع طبيعة الخطاب الشعبوي السردي والمنفلت.
كل هاته تكتيكات ليست جديدة، ولكن الغريب في عودتها إلى المسرح السياسي في عالم يتوق إلى الديمقراطية، التعليم، التكنولوجيا، التواصل والارتقاء الاجتماعي، مما يجعل توفقها أكثر صعوبة.
إلبايس- هسبريس