بعد مراسيم الوداع تلك صعدنا إلى ظهور الشاحنات فبدأت تتحرك وكانت الشمس قد بدأت سحب آخر خيوط نورها من فوق أرض كانت لسنوات خلال رحلتها الأبدية شاهدا على عتامة الظلم الذي مورس فوقها ، وكنت شاردا أحدق في تلك الخيوط كمن يخيل إليه أنه جزء منها كان يحاول بث النور في تلك الأرض فطغت العتامة على نوره ، وقرر في نفسه أنه لن يعود للشروق مجددا .
بالرغم من أن كل شيء كان يسير بشكل طبيعي غير أني لم أصدق بشكل قاطع أني في الطريق إلى الخروج من تلك الأرض التي شاهدت فيها الجحيم وشممت فيها رائحة الموت إلا في صباح اليوم الموالي حين وصلنا إلى الحاجز الحدودي الذي يبعد بأكثر من سبعين كيلومترا عن الرابوني و ترابط عليه عناصر تابعة للبوليساريو قاموا بإنزال الجميع للتأكد من أنه لا يوجد بيننا من ليس اسمه مدرجا في اللائحة التي يبدو أنهم قد زودوا بها قبل وصولنا بالرغم من أنه يوجد معنا عنصر أمن يقود القافلة ولديه نسخة من نفس اللائحة ، وكم كانت فرحتي عظيمة عندما ما كنت من أوائل من نودي عليهم للصعود وسندخل الحدود الموريتانية بعد لحظات . وبالفعل فبعد مسير نصف ساعة تقريبا كنت أدخل موريتانيا بعد ساعات قليلة من دخول صدام حسين إلى الكويت حيث توقفنا عند غدير مائي لتناول شاي الصباح الذي يعتبر ضروريا لتجنب الإصابة بالصداع ، وقد استغرقنا في الرحلة ثلاثة أيام للوصول إلى ضواحي مدينة ازويرات في الشمال الموريتاني وذلك بسبب كثرة الطرق التي كنا نسلكها في كل مرة في اتجاهات مختلفة للبحث عن الأحياء البدوية لإنزال تلك الهبات من المواد الغذائية التي نحملها معنا ، وكان من المفترض أن يوصلونا إلى تلك المدينة لنستقل منها القطار في اتجاه مدينة انواذيبو . غير أنه بعد أن وصلنا إلى مركز تابع للبوليساريو يقع إلى الشمال الغربي من المدينة ، تلقى المشرفون على القافلة أوامر بالتوجه إلى منطقة ميجك حيث سيقام هناك مخيم لاستقبال بعثة أممية لتقصي بعض الحقائق المتعلقة بنزاع الصحراء .
في صباح اليوم الموالي لمغادرة تلك البعثة توجهوا بنا نحو مدينة شوم الموريتانية وكنت خلال الليلة الفائتة قد وجدت حلا لمشكلة كانت تؤرقني وهي مشكلة مصاريف النقل إلى نواكشوط من المحطة التي سيوصلوننا لها إذ أنه قد مضت علي سنين طويلة خلت فيها حتى لغتي من مصطلح النقود ، ولكن في تلك الليلة دعاني على انفراد أحد أفراد القافلة يدعى سلمونا ولد حيبلتي وسلمني دون أن أكون قد طلبت منه أي شيء مبلغ ستة آلاف أوقية أي ما يعادل في ذلك الوقت ثلاثين دولارا ، وحين سألته عن مصدره أخبرني بأن " التنظيم " هو من أمر بمنحي إياه ومن السخيف والمضحك أنني حين قال لي ذلك فكرت في أنني لو كنت أعمل براتب طوال اثنتا عشر سنة فإن راتبي في هذه الحالة سيكون في حدود أربعين أوقية أي ما يعادل 0,2 دولار للشهر ، وفي نفس الوقت تذكرت أن الفرحة التي كنت أراها في وجوه الأطفال الصحراويين عند دخولي القسم عليهم هي الراتب الحقيقي الذي لا يمكن أن يعادله أي راتب ، وسأمضي غير نادم على ما بذلته من أجل تلك الفرحة .
يتواصل .......