قلوب العاشقين لها عيون*ترى ما لا يراه الناظرونا
وأجنحة تطير بغير ريـش*إلى ملكوت رب العالمـينا
أولا يحق لجيل أغسطس أن يعشق ويحلم ويبني ويغير ويضع لمساته الخلاقة على صرح الوطن الشامخ الشاهق، كما فعل رواد 28 نوفمبر؟ بلى. من حقه الطبيعي أن يفعل ذلك. ولكن المفسدين والخاملين والخائفين من المستقبل والمتربصين ينكرون عليه هذا الحق، كما أنكره أشياعهم من قبل على الرئيس المختار وصحبه، يوم رفعوا راية المجد، ووضعوا أسس الدولة، وشرعوا في بناء صرح الأمة من عدم.
نعم.. لقد عارض المبطلون يومئذ الاستقلال الوطني بدعوى أنه ضرب من الخيال والأحلام، وقال بعضهم بالبقاء في كنف فرنسا، ودعا بعض إلى الانضمام إلى المغرب، وسوّق آخرون الانضواء تحت منظومة اتحاد مالي، ورفضوا جميعا الحوار والوحدة الوطنية بين مكونات الشعب وبين الأحزاب الوطنية، وسعوا إلى تخريبها وعرقلتها قبل - وأثناء وبعد- مؤتمر ألاگ. وعندما ظهر إفلاس النظام البرلماني الموروث عن الاستعمار الفرنسي حتى في عقر داره (فرنسا) وثبت عدم ملاءمته لخصائصنا، نعوا علينا أخذنا بالنظام الرئاسي، وتخلفوا عن الركب الوطني متشبثين بزبد يذهب جفاء وقشور لا تسمن ولا تغني من جوع!
لم يكن إجماع ألاگ آنذاك إجماعا كليا بسبب تغيب حركة الشباب وبعض التيارات السياسية الأخرى عنه. وما كان الرئيس المختار ابن داداه ثوريا ولا يساريا. ولكن كان وطنيا إصلاحيا. ومع ذلك لم يتوان أو يتردد هو وصحبه؛ بل شقوا طريقهم بحزم وثبات نحو أهداف الوطن التي رسموها بأنفسهم.
فعلينا أن نتعلم منهم اليوم درسا في الصرامة والحزم، فنضع حدا نهائيا وفوريا للعبة الحوار الدائم والحديث عن المأمورية الثالثة التي تحاول بعض الجهات السياسية في المعارضة والموالاة إلهاءنا بها دون جدوى؛ وأن نوصد الباب نهائيا في وجه هؤلاء وأولئك. ونتوجه مباشرة إلى الجهاد الأكبر المتمثل في صيانة وتمكين مكاسب ومنجزات الحاضر، وصناعة وتحصين المستقبل؛ الشيء الذي يمكن تحديد أبرز معالمه في المحاور التالية:
1.تنظيم استفتاء عاجل، حول التعديلات الدستورية المتفق عليها؛ ووضع المؤسسات الدستورية الجديدة على قدم وساق لتباشر ممارسة مهماتها في أقرب الآجال بصفتها روافد ودعائم لدولة قانون عصرية.
2. تنظيم انتخابات بلدية وتشريعية سابقة لأوانها حسب ما اتفق عليه. وفي سبيل ذلك، يجب خلق الآليات الضرورية الكفيلة بضمان نجاح العملية الانتخابية وتزويد البلاد بمؤسسات ديمقراطية حقيقية لا غش فيها ولا تزوير:
- مراجعة نظام وتشكيل اللجنة الانتخابية المستقلة، بغية جعلها محل إجماع أكبر، ولتعزيز استقلالها وتوسيع صلاحياتها واختيار أعضائها بشفافية على أساس النزاهة والكفاءة.
- توسيع نظام النسبية حتى يستفيد منها أكبر عدد ممكن ويرى الجميع أنفسهم في الصورة.
- مراجعة وإصلاح القانون المنظم للأحزاب، والتأكد من مطابقتها للشروط القانونية، ومن سلامة تمويلها وعلاقاتها بالخارج.
- مراجعة نظام وتسيير ودور مؤسسة المعارضة؛ وذلك من أجل تفعيلها وتمكينها من القيام بدورها، وخاصة في مجال الوساطة السياسية والحوار الديمقراطي.
- إرساء ضوابط وآليات اليقظة والرقابة الضرورية من أجل ضمان الشفافية في تسيير الشأن العام، وقطع دابر استخدام المال الحرام وتوظيفه في شراء الضمائر والأصوات وفي تزوير الانتخابات. ولضمان ذلك يجب تفعيل وتطبيق القوانين المجرمة لهذا السلوك، وإنهاء سياسة الإفلات من العقاب المتبعة منذ أواخر الثمانيات!
3. تعزيز دولة القانون والعدالة الاجتماعية. وذلك بخلق الآليات الكفيلة بضمان فصل السلطات فصلا فعليا، وإصلاح العدالة وضمان استقلالها، وتوطيد الوحدة واللحمة الوطنية؛ وذلك عن طريق بناء دولة عصرية جمهورية عادلة منصفة تعامل شعبها على أساس المواطنة، حيث الموريتانيون كلهم متساوون أمام القانون وأمام العدالة، لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات، وضمان حياد الإدارة وتحسين عملها خدمة للوطن وللتنمية، وتقريبها من المواطن، وإتاحة الولوج إلى وسائل الإعلام العمومية وفتحها أمام جميع الأحزاب والنقابات وغيرها من هيئات المجتمع المدني، مع جعل الأولوية لمحو آثار الرق ومحاربة الفقر، والتمييز الإيجابي لصالح الفئات المهمشة وسكان المناطق الهشة، وإعادة هيكلة وبرمجة وكالة التضامن لتلائم المطلوب منها في تلك المجالات. كما يجب إصلاح المنظومة التربوية لتوائم متطلبات التنمية والوحدة الوطنيتين وتعزيز تعليم اللغة العربية بوصفها اللغة الرسمية، مع ترقية سائر اللهجات الوطنية. وفي سبيل ذلك تجب إعادة الاعتبار للمعلم والمدرسة وإعلاء شأنهما، والرفع من مستوى المصادر البشرية والمالية للقطاع التربوي للحصول على مدرسة جمهورية فعالة تشكل رافعة أساسية للرقي الاجتماعي. وفي السياق ذاته يجب تحسين وتعزيز النظام الصحي العمومي علاجا ووقاية، من حيث جودة التجهيزات ورفع كفاءات الأطباء والرقابة الصارمة على جودة الأدوية والخدمات الصحية.
4.الحكامة الاقتصادية والمالية. إنجاز وتحقيق التنمية الاقتصادية بوضع استراتيجية تحافظ على المصادر الطبيعية وتضمن تجددها، وتثمين القطاع التقليدي (الزراعة، الصيد، التنمية الحيوانية) وتشجيع وإنشاء وتنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة من أجل ترقية الصناعات المحلية وخلق فرص العمل وتشجيع ولوج الشباب والنساء لمجال الأعمال، ووضع آليات التمويل المناسبة، والتوزيع العادل للثروات بحيث تستفيد كافة ولايات الوطن ومكوناته من الثروات الوطنية، وإرساء حكامة بيئية متوازنة، وفي سبيلها يجب ضبط استغلال المصادر على أساس احترام التوازن البيئي وتجدد الثروات طبقا لمتطلبات التنمية المستديمة. والتمسك بسياسة محاربة الفساد، وإنشاء مرصد وطني للشفافية ومكافحة الفساد.
5.تحضير وتنظيم التناوب على السلطة. وفي هذا السياق نقدم بعض الملاحظات الجوهرية، وهي:
* أننا كنا على غير هدًى عندما أضعنا وقتا وجهدا كبيرين في جدال عقيم حول عدم وجود من يستطيع أن يخلف الرئيس المختار ولد داداه في الرئاسة. والواقع أنه كان بإمكان مئات الموريتانيين أن يخلفوا المختار ويحافظوا على إرثه الإيجابي ويجنبوا الوطن كارثة انقلاب العاشر من يوليو لو أتيحت لهم الفرصة، وفتح باب التناوب، وهيئ أدنى قدر من الوسائل لضمان الشفافية والعدل. وعندما لم يقع شيء من ذلك، حدث الفراغ فملأته الطبيعة تلقائيا بما تيسر، وبالطريقة الأكثر فوضى والأبعد عن الديمقراطية وعن الشرعية والمصلحة الوطنية. ونفس الشيء حدث في جميع البلدان التي لم تحضر نفسها للانتقال السلس للسلطة والتناوب الديمقراطي عليها.
* أن أهم إنجاز يحققه رئيس أو نظام لبلده هو حسم مسألة الخلافة بتحضير وتمهيد الانتقال السلس للسلطة إلى خلف كفؤ ونزيه منتخب حسب الآليات الدستورية. وهذا ما يجب أن تنصب نحوه وتخدمه جميع الإصلاحات التي تمخض عنها الحوار، وكذلك جميع الجهود.
* أنه يجب خلق الآليات السياسية والاجتماعية الكفيلة بجعل التداول المنشود للسلطة يجري في خدمة النهج الوطني الحالي محفوفا بأوسع إجماع وطني ممكن.
* * *
أيها المنكرون على الموريتانيين اليوم حقهم في تعديل دستورهم، كما كنتم تنكرون عليهم بالأمس توسيع شرايين عاصمتهم المكتظة وقلع الشجيرات الجاثمة في قلبها، وبيع بعض المدارس والمباني التي لم تعد صالحة للاستعمال أو مقايضتها بخير منها وأحسن، واعتبرتم صفقة بناء مطارنا الدولي الجميل إحدى الكُبَر.. نحن نتمنى أن نعيش معكم قبل نهاية عهد الرئيس محمد ولد عبد العزيز، أو في بداية عهد الرئيس الموريتاني القادم، هدم معالم قديمة وبناء أخرى جديدة ومفيدة على أنقاضها: نتمنى مثلا أن تصبح "آفاركو" وما جاورها - وقد صارت من أملاك الدولة بالطرق القانونية- جزءا من توسعة جادة الرئيس جمال عبد الناصر الكبرى، وأن تتحول بعض معالم المطار القديم إلى ما ينفع الناس ويمكث في الأرض، كالمسجد الكبير مثلا.. وحتى المطار الجديد نطمح أن يتحول إلى مطار داخلي أو عسكري بعد أن نكون قد بنينا مطارا أكبر منه وأجمل! كما نتمنى أن تتحول بعض أحياء انواكشوط وغيرها من المدن الكبرى إلى ساحات وحدائق غنَّاء تمحو القبح والبؤس والتفاهة عن وجه وطننا الحبيب الجميل. إننا نحلم باليوم الذي يتحول فيه دوار مدريد وغيره من مداخل العاصمة جسورا وأنفاقا وأبوابا وساحات عصرية تبرهن على ذكاء وإبداع وجمال روح موريتانيا الحبيبة الحرة الخلاقة. ونطمح إلى أن يجيء اليوم الذي نعد فيه عشرة موانئ على امتداد المحيط من نواذيبو إلى انجاگو، وأن نشرب مع الرئيس محمد ولد عبد العزيز في عهده الزاهر "أبرادا" ثانيا وثالثا ورابعا وخامسا كذلك الذي شربته أعيننا وقلوبنا في دوار رباط البحر يوم رفع رؤوسنا وهو يستقبل القمة العربية في خيمة انواكشوط.
وحتى مبنى رئاسة الجمهورية الحالي نطمح إلى جعله في متناول جميع العشاق، وتحويله متحفا سياسيا وعسكريا؛ وذلك بعد أن نبني – طبعا- صروحا أفخم وأكثر ملاءمة وجمالا. أولم يقل أستاذنا وشيخنا ورائدنا الشيخ محمد سالم ولد عدود:
كل رجعي دعي في العرب*ليس للرجعي فينا من نســب
بحثيث الســــــير تقنا لأرب*كلما جزنا ثنـــــــــــــايا أرب
لا نرى الجعدي إذ قال كذب*.قد رجونا مظهرا فوق السما
نعم أيها السادة.. إن عشقنا وجنوننا لا حدود لهما. فهما لا يتعلقان بالجائز؛ بل يتجاوزانه إلى المستحيل أيضا.. إلى الثريا والسماكين! فنحن نريد - من بين ما نريد- أن يتم توحيد الزي المدرسي حتى تبدأ المساواة من مقاعد الدراسة؛ وأن نجعل المثقفين الموريتانيين يحترمون علامات المرور التي اقتنيت ووضعت في تقاطعات الطرق حماية لأرواحهم المتمردة على النظام وعلى الحياة وعلى المصلحة الوطنية!