تشتهر البلدة القديمة في القدس المحتلة بالكثير من الحارات والجاليات المختلفة، واشتهرت من بين هذه الجاليات الأرمن والأفارقة والأقباط والمغاربة وغيرهم. ويعود وجود الأفارقة في فلسطين إلى زمن الفتوحات الإسلامية، وتحديدا عندما دخل الخليفة عمر بن الخطاب المدينة يرافقه عدد منهم. أما الجالية الأفريقية الموجودة حاليا في مدينة القدس التي تعود جذورها إلى دول تشاد ونيجيريا والسودان والسنغال، فأبناؤها قدموا في أواخر القرن التاسع عشر وهم ينحدرون بنسبهم الى ثماني قبائل هي: السلامات والبرنو والتكروري والفيراوي والحوس والبرجو والكلمبو والفلاته.
وحسب حنا عيسى أمين عام الهيئة الإسلامية المسيحية لنصرة القدس والمقدسات، عضو المجلس الثوري لحركة فتح في حديث لـ «القدس العربي» فإن أسباب مجيء الجالية الأفريقية إلى المدينة المقدسة تكاد تنحصر في سببين جوهريين، الأول ديني، حيث جاءوا لقضاء ما يوصف بالحجة المقدسية قادمين من مكة المكرمة بعد أداء مناسك الحج هناك، وهم بهذه الحالة يكونون قد حجوا إلى المواقع الثلاث الأساسية التي تشد إليها الرحال حسب الشريعة الإسلامية، ألا وهي المسجد الحرام في مكة المكرمة، والمسجد النبوي الشريف في المدينة المنورة والمسجد الأقصى في القدس الشريف.
والسبب الثاني جهادي، حيث قدموا للدفاع عن المقدسات الإسلامية ضد الانتداب البريطاني ومن ثم الاحتلال الإسرائيلي، وأخذوا على عاتقهم حراسة وحماية الحرم القدسي وتقديم الخدمات للمصلين. وشارك الكثيرون من أبناء الجالية الأفريقية في المعارك التي خاضها الفلسطينيون ضد الحركة الصهيونية، وكان أبرزها معركة جبل المكبر التي قادها محمد طارق الأفريقي واستطاع ومن معه من القوات الفلسطينية والأردنية إنقاذ جبل المكبر ومحيطه من الاحتلال الإسرائيلي عام 1948.
ويعتبر أبناء الجالية الأفريقية في فلسطين أنفسهم فلسطينيين من أصول أفريقية رافق أسلاف بعضهم إبراهيم باشا في حملته الشهيرة على فلسطين في عهد محمد علي باشا الكبير الذي كان واليا على مصر في أواخر سنوات الإمبراطورية العثمانية.
وتستقر الجالية الأفريقية في اثنين من المواقع التاريخية في البلدة القديمة تعود إلى الفترة المملوكية. الموقع الأول هو أول رباط يشّيد في القدس وهو رباط علاء الدين البصير، ناظر الحرمين الشريفين ويقع في الجهة اليمنى من الخارج من المسجد الأقصى، والثاني الرباط المنصوري المقابل له. والموقعان لا يبعدان سوى عدة أمتار عن مدخل الأقصى.
ويوجد على الجهتين الشرقية والغربية مدخل الرباط مسطبتان حجريتان، تليهما بوابة في أعلاها نقش يبين باني الرباط وتاريخ بنائه، تقود إلى ما يسمى «دركاة»، وهي عبارة عن ممر ضيق. يوجد على يمين الداخل غرفة مخصصة للحرس، ومن ثم بوابة أخرى تطل على ساحة سماوية. وأحيل هذان الرباطان إلى سجنين في الفترة العثمانية، حيث خصص الرباط المنصوري للمحكوم عليهم بالسجن لمدد مختلفة، أمّا رباط علاء الدين فقد خصص للمحكوم عليهم بالإعدام، ومن هنا جاءت تسميتهم بحبس الرباط وحبس الدم على التوالي. ويعد الرباطان من أملاك الأوقاف الإسلامية.
والسبب في استقرار الأفارقة في هذا المكان حسب عيسى هو أن معظمهم في ذلك الوقت كانوا من سدنة المسجد الأقصى، يقومون بحراسته والاعتناء بنظافته وخدمة زواره، وكانوا في ذلك الوقت منتشرين في عدة مواقع، وطالبوا أن يتجمعوا في مكان واحد حتى يسهل عليهم خدمة الأقصى بشكل أفضل. وبالفعل استطاعوا الاستقرار في هذين المكانين بمساعدة الحاج أمين الحسيني.
يعود وجودهم في هذين المكانين إلى نهاية العقد الثاني من القرن العشرين، أو بداية العقد الثالث. واستند عيسى في ذلك على اساس أنه تم إنشاء المتحف الإسلامي وهو أول متحف في فلسطين في سنة 1921 أو 1922 ثم انتقل هذا المتحف في عام 1929 إلى داخل المسجد الأقصى قرب باب المغاربة.
ويبلغ تعداد الجالية الأفريقية في القدس حوالى ثلاثمائة شخص. الموجودون اليوم هم من أبناء الجيلين الثاني والثالث بنسبة 52% إناثا و48% ذكورا، والجالية مجتمع فتي إذ تقل أعمار الغالبية الساحقة منها عن العشرين عاما.
تتميز الجالية الأفريقية في مدينة القدس بروابط اجتماعية متماسكة وقوية فيما بينها، إذ يعتبرون أنفسهم عائلة واحدة، ويظهر ذلك جلياً في المشاركة الجماعية الكاملة من قبل أبناء الجالية في أفراح وأتراح بعضهم البعض. وكان من عاداتهم تناول وجبة الغداء معاً بعد صلاة الجمعة في الرباط المنصوري، يشارك الجميع في تكاليف الطعام كل حسب إمكانياته، وبعد تناول الغداء يلتفون جميعا حول أحد الآباء ويتسامرون ويخوضون في الحديث عن الشؤون والأوضاع الإجتماعية والسياسية العامة بالعرض والتحليل.
وإذا نظرنا إلى زاوية أخرى وهي العلاقة بين الجنسين فقد كانت قائمة على المساواة وعدم التمييز، بل إن الفتاة تحظى باحترام ومعاملة حسنة تضاهي أحياناً معاملة الشاب. وتعتبر الجالية الأفريقية نفسها جزءا أصيلا من الشعب الفلسطيني بعاداته وتقاليده المستمدة من روح العقيدة الإسلامية لذلك اندمجوا بشكل كامل في المجتمع الفلسطيني ولم ينغلقوا إثنيا على ذاتهم بل ارتبطوا بعلاقات وطيدة مع من حولهم وصاروا مكونا عضويا في نسيج المجتمع الفلسطيني، من حيث الواقع والتاريخ واللغة والدين.
«القدس العربي»