وما إن أكمل لفظ اسمي حتى كنت أرى ابنتها الصغيرة والتي هى ابنة عمي تطلق ساقيها للريح في الشارع وهي تصيح فلان جاء .. فلان جاء ، ولم أكمل السلام على أرملة عمي حتى كانت هناك مسيرة تتجه نحونا لم أتعرف على أي من المشاركين فيها سوى أختي الكبرى و والدي الذي أثرت في كثيرا قيادته لمسيرة لاستقال تلك وعرفت مدى الألم الذي سببته لعائلتي ، إذ أن الوالد كان من الجيل المتمسك بتقليد غريب يعيب على الرجل أن يظهر محبته لأبنائه أمام الملأ ، وأعتقد أن تلك كانت المرة الأولى التي أراه يعبر فيها علنا عن حنان الأبوة .
أعلنت حالة الطوارئ في الدار وتفرق المبعوثون في الأحياء يخبرون الأهل والمعارف بأن أشلاء المفقود قد عادت بعد أن كان اليقين بأنه لا يعود ، ورغم فرحتي باللقاء الذي كنت أخاله مستحيلا فقد أحسست بالخجل من شبان وشابات كنت أراهم ضمن المستقبلين ولم أتعرف على أي منهم بالرغم من أنهم لم يكونوا سوى إخوتي وأخواتي وأبناء أختي الذين تركت البعض منهم وهو رضيع في شهره الثاني فقد كنت كأنني واحد من أصحاب الكهف جاء غير متلطف لا يحمل سوى قصة كهف آخر ليست فيه فجوة تحمي المتقلبين فيه إنما فيه شق بالكاد يتسع للميت الذي لا يبعث ، لم يعرف أهله النوم وتحرسهم كلاب كثيرة ، والشمس لا تراهم كي تزاور عنهم ذات اليمين وذات الشمال .
كانت أجمل لحظة في حياتي كلها هي تلك اللحظة التي وقفت فيها لاستقال والدتي وهي عائدة من المسجد حيث كانت تصلي في رحابه وكانت تبتسم وتسأل خالي عما إذا كان متأكدا أن الذي بين يديه هو أنا ثم حدقت في وجهي مبتسمة وهي تقول إنه لم يكن لي شنب ، وقد قلت لهم بأن قلب الأم يحدثني بأنك ستعود فأشفقوا علي واتهموني بالخرف .
عودة الحياة :
بعد أسبوع أمضيته كالمهرج يتحلق الزوار حولي يمتحنون ذكائي بالسؤال عما إذا كنت عرفتهم ويضحكون من تبدل لكنتي في الكلام وبعض المفردات التي استعملها ، بدأت معركة التكيف من جديد وقد بدأتها بالبحث عن عمل واسترجاع وثائقي من أجل التسجيل في الجامعة فقد كنت لا أزال على شغفي بالطبشور والقلم وأرى فيهما الوسيلة المثلى لبناء حياة أفضل ، وهنا تعود بي الذاكرة إلى التجربة التعليمية التي كنت جزء منها في صفوف البوليساريو والتي ذكرت بأنها كانت ستكون رائدة لولا أنها أسندت في أوج تطورنا لمن رأوا في الشباب المتعلم خطرا على كراسيهم التي أدى الخوف عليها إلى فشل تلك التجربة وربما ظهور بوادر فشل المشروع ككل حيث أصبح التوجيه في مجال التعليم يخضع لعوامل القرب العائلي من القادة أو إمكانية التدجين لخدمة الحكم لا لخدمة المجتمع والقضية ، وهنا يحضرني الكثير من القصص التي كان أصحابها ضحايا لتلك السياسة رغم ما تميزوا به على كرسي الدراسة في المخيمات من اجتهاد وقابلية للتحصيل ، ومن ضمن تلك القصص التي استهدفت تجهيل جيل كي يبقى على الهامش حالة أحد تلاميذي يدعى خبوز البشير الذي تم توجيهه للميدان العسكري بالرغم من صغر سنه وتميزه في القسم لينتهي به المطاف لاجئا في احدى الدول الاوروبية بدل أن يصبح كادرا علميا على غرار جراح مشهور من جيله يعمل الآن في مكان ما ، كانت قيادة البوليساريو قد تركته دون مصروف عالقا في يوغسلافيا بعد اندلاع الحرب فيها مما اضطره للعمل مترجما مع بعض المنظمات الخليجية كي يتمكن من الصرف على دراسته الجامعية .
وقد بدأت قصة خبوز البشير عندما حاضر كل من سيد أحمد البطل والمحجوب ابراهيم(ولد افريطيص) في تلاميذ 12 أكتوبر وقال هذا الأخير بأنهم ليسوا بحاجة إلى متعلمين وإنما إلى جنود مقاتلين لأن المتعلمين هم سبب بلاء الثورة الفلسطينية ، وحين فتح باب المداخلات كان كلام ذلك التلميذ الصغير صادما للمحاضرين إذ أبرز في مداخلته أن الثورة ليست بندقية فقط وإلا فما جدوى المستوى الدراسي الذي حصلوا عليه كتلاميذ ، ومثلما كانت صرخته مدوية جاء رد الفعل مدويا ، فقد استدعي إلى الإدارة واتهم بأنه لقن هذا الخطاب من طرف أقارب له متهمين بأنهم أعضاء في الشبكة الموريتانية الفرنسية المختلقة وبذلك تم دفن أمله في التعليم الجامعي مثل كثير من أقرانه ومثلما دفن أمل أستاذه في إكمال تكوينه ليصبح بعد عودته لوطنه يطمح للجلوس في المدرجات الجامعية عله يلحق بالعربة الأخيرة من القطار .