التسول أحد المظاهر السيئة التي تطبع شوارع مدينة انواكشوط في وضح النهار وفي أوقات متأخرة من الليل، وهو مهنة مدرة للدخل يمارسها الضعفاء وذوو الحاجات الخاصة والأقوياء وأصحاب الأموال في آن واحد؛ حتى أصبحت تتردد عندما تنوي إعطاء صدقة لأحدهم!.
ومع تنامي هذه الظاهرة ليس في الشوارع فقط، وإنما عند أبواب المنازل والمؤسسات العامة والخاصة وأمام المستشفيات ووسط سيارات الأجرة، بات من المألوف تواجد هؤلاء في كل مكان وفي كل زمان أيضا..
السلطات المحلية -ممثلة في رجال الأمن- شنت حملات منظمة بغية القبض على متسولي الشوارع وإيوائهم في مراكز أنشئت لرعايتهم ودمجهم في الحياة النشطة وإبعادهم عن امتهان المسألة والاتكالية على الغير؛ إلا أن كل هذه الجهود لم تقنع غالبية هؤلاء بقبض أيديهم بعدما اعتادوا على بسطها.
وللوقوف أكثر على الموضوع ومعرفة الأدوار التي يقوم بها برنامج مكافحة التسول في العاصمة زرنا مركز الاستقبال الواقع في حي "كارفور" بمقاطعة عرفات.
تم إنشاء مشروع مكافحة التسول في انوكشوط في 18 /6/ 2001 بتمويل من المفوضية المكلفة بمحاربة الفقر وبالدمج لتوفير خدمات التغذية والصحة للمعاقين والضعفاء الذين لا يقوون على مزاولة الأعمال. وفي العام 2003 أدرج المشروع ورشتي الخياطة وصناعة السياج وتوفير السكن والملبس والمأكل للعاملين في هذه الورشات، وكذا للقائمين على حراسة المراكز والطباخين.. ويبلغ عدد المراكز 5 اثنان منها في عرفات ومركزان في الميناء ومركز في مقاطعة السبخة. ويبلغ عدد المسجلين في هذه المراكز 1224 شخصا، أما مركز الاستقبال رقم 1، الذي زرناه فيبلغ مسجلوه 350 شخصا يحضر منهم 200 بشكل دائم.
وبعد أن تجولنا في محيط المركز واطلعنا عن كثب على طريقة عمل القائمين عليه وطيعة الخدمات التي يقدمونها لذوي الحاجات الخاصة؛ والتي -بكل أمانة- تتسم بالإنسانية والرفق. كان لنا حوار مع المشرف على المركز أحمد سالم ولد الشيخ ولد بابه، الذي شرح لنا طريقة عمل المركز والمعايير التي يستقبل بها المتسولين فقال: "هذا المركز يضم 350 مسجلا من بينهم 75 معاقا، ويضم ورشتين للخياطة وصناعة السياج يعمل فيهما 32 متسولا، 20 منهم معوقون وبخصوص ورشة السياج فهي تضم تسعة أشخاص من بينهم مدربون ومتدربون على صناعة السياج، وعاملو الورشتين يسكنون هنا بشكل كامل ويتكفل البرنامج بأمورهم الصحية ومعاشهم، ولديهم طبيب عام -يمكنني إطلاعكم على مكتبه- وطبيبة عيون، ويقوم هذا الطاقم الطبي بتقديم الخدمات الضرورية لجميع المرضى، ويتم رفعهم إلى المستشفى الوطني إذا تطلب الأمر، وبدورنا نحن نقوم بجميع الإجراءات وشراء الأدوية. وعلى سبيل المثال فهذا الرجل الواقف جنبي بترت ساقه فقمنا بشراء ساق صناعية له هذا بالإضافة إلى بعض المساكن التي تكفل البرنامج بشرائها لإيواء المتسولين؛ فالمركز يكفل للمتسولين بشكل عام أمور الإعاشة والرعاية الصحية وتمويل المشاريع التي تتم متابعتها من طرف وكيل تابع للمركز، وهذا بدوره يرفع تقرير عنها من قبيل ربحها أو خسارتها. ولله الحمد فإن أكثرية من تم تمويلهم حقق أرباحا مرتفعة، وهناك أيضا بعض آلات الخياطة أعطيت للبعض ليعملوا عليها في منازلهم".
وحول طريقة استقبال المتسولين أجاب المشرف: "نحن نستقل المتسولين عن طريق الشرطة التي تقبض عليهم في الشوارع فتحرر محاضرهم وتحضرهم إلينا، ونحن بدورنا نقوم بملء المحضر بمعلومات المعني من قبيل الاسم وتاريخ الميلاد، والحالة الجسمية والمعنوية والمادية، ومكان الإقامة.. ونزوده بأربع صور، ثم نرسله إلى أقرب مركز من إقامته ونطلب من المشرف الذي أرسلناه إليه إعداد بحث خلقي عن المعني بغية التعرف على وضعيته وهل أرغمته الضرورة على التسول أم لا؟ فإذا كان التقرير إيجابيا يتم وضع المتسول في قائمة الأولويات، وإذا ثبت العكس تعاملنا معه معاملة أخرى؛ إلا أن هذه المعاملة لن تصل إلى حد الطرد أو الشتم.. فالمدرجون في الأولوليات هم العجزة والضعفاء الذين لا يقوون على فعل شيء.
وللملاحظة فكل المسجلين في هذه المراكز هم موريتانيون؛ فنحن لا نستقبل أجانب فيها، فالشرط الأول لتسجيل أي متسول هو بطاقة تعريف.
وحول الرواتب التي يتقاضاها عاملو الورشات والطبخ والحراسة فتبلغ 22 ألف شهريا والمتسولون غير العاملين مبلغ 13 ألف أوقية تسمى إعاشة المسولين".
بعد ذلك زرنا محل عرض منتجات ورشة الخياطة التابع للمركز والواقع في نفس البناية.. حيث أكدت لنا فاطمة بنت المعلوم -وهي المسؤولة عن هذا المحل- أن "المحل يقوم بتوفير الأقمشة بشتى أنواعها لعاملي ورشة الخياطة وبعد إنجاز المطلوب نقوم بعرضها وبيعها؛ وبما أن المحل يجب أن يكون فيه نوع من التنوع فنح نقوم بشراء بعض المنتجات الأخرى كالأحذية وحقائب النساء بغية جلب الزبناء وتنويع البضائع المعروضة؛ إلا أن نسبة البيع تظل منخفضة في غير مناسبات الأعياد"..
كما قابلنا سيدي محمد ولد شيخنا، عضو الجمعية الموريتانية للمعوقين، وسألناه عن الخدمات التي يقدمها البرنامج للمتسولين فأجاب: "الخدمات التي يقدمها المركز هي الرعاية الصحية، ودمج المتسولين في المشاريع الصغيرة، التي كانت تمول في البداية بمبلغ 20 ألفا؛ وتتم زيادتها بمبلغ 5 - 10 آلاف كل أربعة أشهر.. وفي الآونة الأخيرة وصل تمويل المشاريع الصغيرة إلى مبلغ 70 ألف أوقية واستحثت بعد ذلك مبالغ أخرى لأصحاب هذه المشاريع تسمى "الصايرة" تبلغ 13000 أوقية شهريا، بغية أن يصرفها المستفيد على أفراد أسرته، وقد تتأخر هذه المبالغ مدة شهرين أو ثلاثة. وكان المركز يقدم خدمة أخرى -ولكن تم حذفها- وهي مبلغ 10.000 أوقية لكل متسول في مناسبات الأعياد الدينية؛ وهذا البرنامج عموما يقوم بأدواره على أحسن وجه ويستقبل المتسولين بصدور رحبة؛ إلا أن هنالك مطالب تبقى لدينا -نحن المعوقين بشكل خاص- كزيادة الرواتب، ودمج البعض في الحياة النشطة؛ والذين من بينهم أعداد كبيرة عاطلة عن العمل منذ أزيد من سنتين.
ومع ذلك فهذه المؤسسة تقوم بدور مهم هو كفالة المعوقين والضعفاء الذين حرمتهم الإعاقة -الذهنية أو الجسمية- من لعب دورهم في تنمية الوطن؛ والذين جلبت لهم السعادة ورسمت البسمة على وجوههم.. وإعادة الأمل بعد ما فقد هي أهم الأشياء لديهم.
هذه المؤسسة تبقى منسية من طرف الوزارة الوصية التي تخصص لها صدقات على وبشكل متأخر وتعاني من تراكمات في الإنتاج؛ وهي التي كانت قد وعدتها الإدارة بشرائه أو تسويقه. وتبقى ولاية انواكشوط -التي تعنى بالقبض على المتسولين في الشوارع- هي المسؤول الأول عن تشويه صورة المدنية بهؤلاء؛ فالداخل من مطار انواكشوط وحتى شواطئها أول ما يلفت انتباهه هو كم المتسولين عند كل مفترق طرق وأمام أبواب جميع المرافق العمومية، وربما ساهم هؤلاء بشكل من الأشكال في زيادة الزحمة التي شهدتها شوارعنا في الأشهر الأخيرة وفي كل الأوقات".
وفي الختام يبقى السؤال المطروح متى سنخرج من مشكلات الشوارع التي تطبعها الأوساخ والزحمة والمتسولون.. والمجانين كذلك؟!
سيدي محمد ولد محمد المختار
السفير: العدد 598،
الصادر بتاريخ: 22 نوفمبر 2007