ولئن سألتهم، بعد كل الذي جرى، عن المأمورية الثالثة، ليقولن إنها واقعة لا محالة، إن بهذه الطريقة أو بتلك الأخرى،
تاريخنا السياسي مليء بالمؤامرات التي أخذت الوطن دائما إلى الحافات والمنحدرات الخطرة، لكن الزمن تغير كثيرا وعلينا أن نواكبه إن نحن أردناه ألا يهرب منا، جمهورية البنين، التي خرجت للتو من سنوات الخوف والشك، تحضر الآن لدستور جديد بمأمورية رئاسية واحدة ولن تكون تلك سابقة في إفريقيا فحسب بل وفي العالم بأسره،
قطعا، من حق أي رئيس منصرف أن يدعم من يشاء في الانتخابات، لا أحد يستطيع أن يجادل في ذلك أو ينكره عليه، لكن من حق الآخرين على الدولة أن تكون حكما عدلا بين الجميع وأن تحفظ حقوق الجميع، سواء من دعمه الرئيس منهم أو من لم يدعمه الرئيس،
أوباما، جاب الولايات المتحدة طولا وعرضا، زنقة زنقة وشارعا شارعا وجادة جادة، غني ورقص وألقى كل أنواع الخطب المنمقة واستعرض مهاراته في النفخ على آلة الساكسفون وفي الخلفية، كانت السيدة ميشيل تشد أزره، توزع دلالها الدافق وابتسامتها الجميلة على الجموع لتقول لهم إن الحلم الأمريكي ما زال ممكنا،
لكن كل ذلك لم يغير من الأمر شيئا، بصق الأمريكيون على "الاستبليشمنت" وأزمنته الطويلة وركلوه على مؤخرته وجاؤوا برجل قادم من "لا مكان" ثم أرسلوا السيدة كلينتون إلى منتجع بعيد في هاواي، لكي تستمتع بكل الإجازات السنوية التي حرمت نفسها منها ولكي تؤنس بعلها "بيل" في شيخوخته، أمزجة الشعوب معقدة جدا، لا يمكن فهمها أحرى التحكم فيها،
منذ سنوات قليلة وغير بعيد عن حدودنا، كان ماكي صال وأتباعه يجابهون البوليس في شوارع داكار وساحاته وأزقته الضيقة، كانت مواجهات حامية الوطيس، لدرجة جعلتنا نقول، عود ثقاب واحد ويشتعل السنغال عن آخره، لكن عندما دقت ساعة الانتخابات نفضوا أيديهم من كل ذلك البؤس وذهبوا إليها،
كانوا على يقين بأن في السنغال دولة عادلة، لا يظلم عندها أحد ولم يخب ظنهم ذاك أبدا، ظهر "واد" مرتبكا جدا في ذلك الصباح الذي لا لون له، نسى العجوز الأصلع أن يضع بطاقة التصويت في الصندوق، لولا أن نبهه أحد مرافقيه، وكانت تلك بداية النهاية،
متعة الهزات السياسية، أنها لا تحدث فجأة وتنتهي بسرعة كما الهزات الأرضية، بل تأتي دائما بالتقسيط وأحيانا يكون ذلك التقسيط مريحا للغاية، ما يمنحنا مشاهد مدهشة لتلك الأنظمة وهي تنهار قطعة وراء أخرى كأحجار الدومينو،
الذين يوهمون أنفسهم والناس بأن 2019، ستكون مجرد سهرة ماجنة للاحتفال بتنصيب "الخليفة" المنتظر، عليهم أن يمدوا بصرهم قليلا إلى ما هو أبعد من رؤوس أصابع أقدامهم، لكي يروا العالم من حولهم،
إفريقيا التي كان يقول عنها الكوميدي الفرنسي الساخر "ديودونيه مبالا مبالا"، إنها القارة التي تبايع رؤساءها حتى بعد موتهم، ثابت إلى رشدها وأقلعت عن تلك العادة السيئة، كنست رياح التغيير عواصمها الواحدة تلو الأخرى، من أبيدجان إلى كوتونو إلى أكرا إلى كنشاسا إلى واغادوغو إلى ليغوس إلى نيامي إلى باماكو إلى بانجول إلى داكار...وأخذت في طريقها كل الضحالات التي نبتت في تلك الأرض الطيبة،
حتى "الكاف" لم تسلم هي الأخرى، العجوز الكاميروني، عيسى حياتو الذي أمضى ثلث حياته رئيسا للكونفدرالية الإفريقية لكرة القدم، لم يتصور يوما أن الذي سينتزعه من كرسيه، هو رجل لا يعرفه منا أحد، قدم من جزيرة ضائعة بين أمواج المحيط الهندي، يلفها الضباب ستة أشهر من السنة وتغرقها الأمطار في الأشهر الستة المتبقية،
درس السابع عشر من مارس آذار، بسيط بساطة الحكايات التي كانت ترويها لنا جداتنا قبل أن نخلد للنوم، مؤداه أنه لم يعد بإمكان أحد أن يقرر مكان أحد آخر وأن التحكم ببضع وخمسين صوتا أمر صعب فما بالك بأكثر من مليون ناخب، وأن زمن التسويات السياسية القذرة طبقا لمنطق "حتى لا يموت العجل أو يجف الحِلَابُ"، قد ولى إلى غير رجعة،
2019، هي حكاية أخرى، انتخابات أخرى وليست مأمورية ثالثة أخرى كما يخيل للبعض، هناك فرق شاسع بين السياسة والتهريج،
جورج كليمانصو، حين قال إن التاريخ يكرر نفسه دائماً وأن علينا أن نمنعه من ذلك، كان يقصد الشعوب، فهي من جعلت التاريخ يكرر نفسه وهي من اتخذت دائما القرار بمنعه من ذلك ودعته إلى مسارات أخرى أكثر اتساعا ورحابة،
الشعوب وحدها هي من يصنع التاريخ وهي وحدها من يشيد مزاراته العظيمة وهي وحدها من يكتب عناوينه الكبرى ولا أحد يستطيع أن يقف في وجهها، إن هي أرادت ذلك.
البشير ولد عبد الرزاق