الديناميكيات المتغيرة في المناطق القَبَلِيَة السورية | صحيفة السفير

الديناميكيات المتغيرة في المناطق القَبَلِيَة السورية

أربعاء, 22/03/2017 - 18:08

تركز الاهتمام الدولي مؤخراً على القتال في غرب سورية، خاصة في المناطق الحَضَرية الممتدة من دمشق إلى الحدود التركية الأردنية، إلا أن الديناميكيات في شرق سورية لن تكون أقل أهمية بالنسبة إلى مستقبل البلاد.

ففي تلك المنطقة، يشن التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة غارات جوية ضد الدولة الإسلامية المُعلنة ذاتياً، وتخوض تركيا غمار معركتها الخاصة ضد كلٍ من الدولة الإسلامية والأكراد في إطار عملية درع الفرات؛ فيما تنخرط قوات سورية الديمقراطية التي يسيطر عليها الأكراد في حمأة حملة مدعومة أميركياً لتحرير مدينة الرقّة من قبضة الدولة الإسلامية. هذا علاوة على أن النظام السوري يحتفظ بوجود في المدن الرئيسة في المنطقة: دير الزور والحسكة والقامشلي.

ثمة ضرورة لفهم التركيبة الاجتماعية لهذه المساحة الجغرافية الشاسعة، في ضوء تقاطع المصالح المُتعددة السورية والإقليمية في تلك المنطقة، كمدخل لاستطلاع آفاق المحصلات السياسية المُستقبلية هناك.

يتحدّر شطر كبير من السكان الذين يقطنون شرق سورية من أصول قَبَلِيَة. والقبيلة، في السياق السوري، هي وحدة اجتماعية- سياسية تقوم على العائلات المُمتدة التي تستوطن أراضٍ محددة، تكون عادة بلدات برمتها أو أحياء في المدينة 1. وقد سعت القوى الخارجية منذ اندلاع الانتفاضة السورية في العام 2011، إلى استقطاب الدعم القبلي لتحقيق أهدافها السياسية والعسكرية، فتحالفت مع مشايخ القبائل واستخدمت البنية القبلية لتشكيل وحدات مقاتلة. بيد أن قبائل سورية لم تعد مُوحّدة داخلياً ومُستقلة اجتماعيا، بعد أن ارتبط دورها السياسي على نحو وثيق، ومنذ أجيال عدة، بالسلطة السياسية. وهذه الحقيقة أعادت تعريف الطريقة التي يَنتظِم بموجبها السوريون من ذوي الأصول القبلية سياسياً واجتماعياً. بكلمات أوضح: حين تنامت السلطة المركزية في غضون القرنين التاسع عشر والعشرين، أضحى القادة القبليون على نحو متزايد وكلاء الدولة والناطقين باسمها في سياق إدارتهم لمناطقهم. وهذا ما ضعضع مواقعهم أمام أبناء قبائلهم، وسمح للسلطة المركزية بالعزف على وتر التناقضات بينهم في خضم تنافسهم على نيل حظوتها.

يصطدم كل من يسعى إلى التعاطي مع التمثيل السياسي لقبيلة برمتها بمعضلة.

واليوم، يصطدم كل من يسعى إلى التعاطي مع التمثيل السياسي لقبيلة برمتها بمعضلة. فالتركيبة القبلية تبدو ظاهرياً متماسكة، ربما كما كانت قبل أجيال، حيث التراتبيات الرسمية لاتزال موجودة، وأعضاء العائلات الرئيسة يواصلون التربّع على قمّة الهرم الاجتماعي. ثم أن هذه القبائل تواصل السُكنى في المناطق الشاسعة نفسها في سورية كما كانت تفعل قبل تأسيس الدولة السورية الحديثة. لكن الواقع أن العلاقات في داخل القبائل تغيرّت كلّياً حين تُقارن بالحقبات السابقة، إذ تبخّر ذلك الزمن الذي كان فيه شيخ قبيلة قادراً على إبرام الاتفاقات مع قوى خارجية نيابة عن كل أفراد قبيلته.

لم تعد القبائل، كما كانت تُفهم عادة، تُشكّل أساس المشاريع السياسية في سورية. وعلى الرغم من أن هياكلها لم تتغيّر، إلا أنها توقفت عن احتلال الموقع الأرفع في الحياة السياسة والاجتماعية للمجتمعات المحلية. ثم أن العلاقة بين القادة التقليديين للقبيلة وبين أفرادها، تماماً كما العلاقة بين هؤلاء القادة وبين سلطات الدولة، تستند إلى حد بعيد اليوم إلى مصالح كل طرف وليس إلى القواعد الرسمية للسلوك القبلي.

ثمة هنا نقطة أخرى لاتقل أهمية: فقد كان للنزاع الذي اندلع العام 2011 مضاعفات مُدمرّة على المجتمعات المحلية في طول سورية وعرضها، خاصة منها الكيانات المُجتمعية ذات الأصول القبلية في شرق سورية. فالجماعات المُتطرفة على غرار الدولة الإسلامية وجبهة النصرة (المعروفة الآن بجبهة فتح الشام) رسخت جذورها في هذه المناطق، وأضفت غالباً البُعد القبلي على تشكيلاتها. وهكذا، انطوى القتال الذي انغمست في حمأته هذه الجماعات على هويات وولاءات قبلية، ما ألحق الضرر بالتماسك الاجتماعي، وعَزَلَ المجتمعات المحلية عن بعضها البعض، كما بهّت فرص التضامن وفق الخطوط القبلية.

إضافة إلى ذلك، نزح العديد من مشايخ القبائل عن أراضيهم، فيما أجبر العنف وبروز الجماعات الإسلامية المتطرفة أبناء قبائلهم الذين بقوا في شرق سورية على التركيز على همومهم المحلية المباشرة المتعلقة بأمنهم وبالحفاظ على البقاء. كل هذا شجّع الأطراف السياسية الكبرى على التنافس في مجال التعاطي مع القبائل. وهكذا، حين كان طرف ما يعزّز أجندته مع شيخ قبيلة، كانت الأطراف التي تنافسه تعمد إلى الردّ على ذلك بمناورة مضّادة مع قبائل مجاورة، أو مع قادة آخرين في القبيلة نفسها. صحيح أن القبائل ستبقى مهمة للحياة السياسية في شرق سورية، لكن يحتمل أن تبقى تحت سطوة ونفوذ قوى من خارجها.

هذا المقال جزء من ورقة بحثية لمركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، بعنوان "توقعات من الشرق: الديناميكيات المتغيرة في المناطق القَبَلِيَة السورية".

خضر خضّور