أمريكا وروسيا تبحثان عن مصالحهما بلا مبادئ | صحيفة السفير

أمريكا وروسيا تبحثان عن مصالحهما بلا مبادئ

اثنين, 10/04/2017 - 16:27

الصداقة والعداء نسبيان وظرفيان، وليسا مطلقين او دائمين. تنطبق هذه القاعدة على العلاقات الشخصية، ولكنها اكثر انطباقا على العلاقات بين الدول. فالاشقاء قد لا يكونون اصدقاء، بل تنحصر علاقاتهم بوشائج الدم فحسب، بعيدا عن الاعتبارات الاجتماعية والشخصية. اما على مستوى العلاقات بين الدول فهي اكثر خضوعا للمصالح وطبيعة الانظمة وامزجة الحكام. بل ان الاديان نفسها لا تخلو من ظواهر الصداقة والعداء البينية. ومع ان الإسلام يقر مبادئ الصداقة والعلاقات الدولية الحسنة، إلا ان مصالح الإسلام اقتضت ان يكون اقرب في علاقاته مع قوة دولية في مقابل اخرى. وفي سورة الروم آيات تؤكد ذلك: «ألم، غلبت الروم، في أدنى الارض وهم من بعد غلبهم سيغلبون، في بضع سنين، لله الامر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون، بنصر الله». كان توازن القوى آنذاك موزعا بين الإسلام والفرس والروم. ولم تكن من مصلحة الإسلام ان ينتصر الفرس لأنهم كانوا كفارا، بينما كان الروم من أهل الكتاب. فجاءت الآية تنبئهم بان الصراع بين القوتين «العظميين» آنذاك سوف يحسم قريبا لصالح الروم الذين كانوا أقل خطرا على الدولة الإسلامية. كان القرب من الايمان والشرك معيارا للانحياز للقوى المتصارعة.
صراع القوى ظاهرة تاريخية لم تتوقف، والتحالفات في ما بينها كظاهرة الرمال المتحركة في الصحراء العربية، لا تستقر او تدوم، بل هي في حركة مستمرة حسب اتجاه الرياح وقوتها. ومنذ سقوط الخلافة الإسلامية تنازعت الدولتان الكبريان على المصالح في العالمين العربي والإسلامي. فوقعت شعوب مسلمة في دائرة نفوذ الاتحاد السوفياتي وبقيت كذلك إلى ما قبل ربع قرن تقريبا عندما تفكك الاتحاد السوفياتي الذي كان يجمعها. وكانت هناك دول وانظمة تتحرك ضمن الفلك السوفياتي خلال الحرب الباردة. وبقي العالم العربي ينوء تحت الاستعمار الغربي وتصارع شعوبه لنيل استقلالها. يومها كان الشرق يعني «التقدمية» و «الاشتراكية»، بينما كان الغرب يمثل الاستعمار والامبريالية. وتعمقت لدى الشعوب ثقافة رفض النفوذ الغربي بعد ان غرس في جسد الامة الكيان الاسرائيلي وتعهد بالحفاظ على تفوقه الاستراتيجي الاقليمي لضمان استمرار بقاء فلسطين تحت هيمنة الصهاينة. ومن المؤكد ان ايديولوجية النضال التقدمي ساهمت في بث وعي سياسي واجتماعي انتشر في اغلب البلدان العربية، خصوصا في عهد جمال عبد الناصر. ويمكن القول ان الاحزاب الرائدة في العمل السياسي النضالي كانت ذات طابع يساري في اغلبها، ابتداء بالاحزاب الشيوعية بتقسيماتها، والقومية والبعثية. وجميع هذه التوجهات عانى، هو الآخر، من انقسامات داخلية لاسباب شتى. ولا يمكن انكار دور تلك التوجهات في بث الوعي التحرري لدى قطاعات واسعة خصوصا الشباب وطلاب الجامعات. يومها كانت هتافات الشباب تنطلق بحماس: من المحيط الهادر، إلى الخليج الثائر، لبيك عبد الناصر.
لم يكن المزاج العربي على الصعيد الشعبي مركبا على التعاطف مع الولايات المتحدة الأمريكية. وتستحضر الذاكرة مشاهد الرجال المتقدمين في العمر (واغلبهم من الاميين) في نهاية الستينات، وهم يتابعون اخبار المعارك المحتدمة في فيتنام بين القوات الأمريكية ومجموعات المقاومة الفيتنامية المعروفة بـ «فييت كونغ». كان انحياز الرأي العام العربي، حتى بين الكبار، واضحا ضد الأمريكيين الذين دعموا الاسرائيليين في حرب 1967 واعتبروا الدعم الأمريكي لـ «اسرائيل» من اسباب النكسة التي كانت الاكثر ايلاما في وجدان الجيل الباقي من معاصري تلك الحقبة. لم تكن أمريكا يوما محبوبة لدى الجماهير العربية، وازدادت تلك الظاهرة بعد صعود ترامب الذي فرض سياسة منع المسلمين من دخول أمريكا. هذا لا يعني ان المزاج العربي ينسجم تماما مع روسيا، خصوصا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي الذي كان لديه اطروحة احتذت بها «القوى التقدمية» العربية ردحا من الزمن. وخلال ربع القرن الاخير كانت روسيا غائبة تماما عن المشهد العربي، بعد ان تلاشى بريقها الايديولوجي وسقطت مواقع نفوذها في المنطقة. كانت الايديولوجيا عاملا اساسيا في التحالفات السياسية والاستراتيجية. ومنذ حرب الكويت في 1991 حدث تغير جوهري في المنطقة العربية. ولا بد من استحضار الرفض المطلق للتدخل الانكلو ـ أمريكي لضرب القوات العراقية في الكويت، والمظاهرات التي عمت اغلب البلدان العربية الكبرى خصوصا في شمال افريقيا ضد ذلك التدخل. كانت الرؤية السائدة ان السماح لأمريكا بضرب العراق مناف للقناعات والمبادئ التي يقوم عليها العقل العربي الرافض للاستعمار والامبريالية والصهيونية. ولم تستطع الامبراطوريات الإعلامية المرتبطة بالدول العربية الصديقة لأمريكا تغيير تلك القناعات. ولكن ربع القرن الاخير شهد «هندسة» دقيقة للرأي العام في العالمين العربي والإسلامي. وفي غياب رافعي لواء «التقدمية» و «الاشتراكية» و العداء للامبريالية، أصبح المجال مهيأ لطروحات اخرى فرضت نفسها تدريجيا حتى نجحت في القضاء على الوعي التحرري لدى الشعوب.
بقي الوعي العربي حاضرا، يوجه مواقف الجماهير بشكل فاعل، وان كان آنذاك يمر بمرحلة حاسمة بين البقاء والفناء. وجاءت الحرب الانكلو ـ أمريكية على العراق في 2003 لتنهي حقبة من الوعي وتوجه المشاعر على طريق التطرف والتمذهب، الامر الذي ادى إلى تصدع الكيانين العربي والإسلامي، وتلاشي الوعي التحرري الذي كانت فلسطين نقطة انطلاقه ويرفض التطبيع مع كيان الاحتلال. وساهم في اضعاف التحالف غير المقدس بين القوى المعادية للحرية والاستقلال والتحرير الحروب التي شنتها «اسرائيل» على قوى المقاومة اللبنانية والفلسطينية وفشلها في كسر شوكتها. وهنا كان واضحا ان الشعور الفطري لدى الشعوب العربية اقوى من محاولات التخدير او التضليل. لكن ذلك الشعور لم يستطع الصمود امام الاثارات المصطنعة وفق خطوط التمايز العرقي والمذهبي، فتم التقعيد لايديولوجيات التفتيت والتقسيم والاستسلام للاحتلال والخضوع لحقائق جديدة طالما اعتبرت من المحرمات ومنها عودة الاستعمار من الشباك بعد طرده من الباب، وبناء القواعد العسكرية (هذه المرة بطلب رسمي من بعض الحكومات العربية التي تبرعت بتمويل بناء تلك القواعد مباشرة او بعقد الصفقات المليارية لشراء الاسلحة). فلم تعد قيم التحالفات القديمة مهيمنة على الوضع، لأن المزاج الذي ثار ضد القواعد العسكرية الاجنبية في الستينيات والسبعينيات، تم تطبيعه للقبول بعودة تلك القواعد مجددا، والشعور الشعبي الرافض للاحتلال تعرض للتخدير والتمييع ليقبل ليس بالتطبيع مع قوات الاحتلال فحسب، بل اعتبارها «حليفا» في الصراعات الداخلية المفتعلة بين مكونات الامة نفسها، وهي الامة التي طالما تعايشت مكوناتها بانسجام وتفاهم وحب واحترام بين الاطراف. ولم تعد أمريكا، حتى في عهد ترامب، الذي يمثل اسوأ ما تمخض عن الرأسمالية، مرفوضة، بل اصبحت الاطراف تخطب ودها في النزاعات الاقليمية، برغم تدخلاتها الواسعة في الصراعات التي يصب الزيت عليها بدون انقطاع.
من هو الصديق ومن هو العدو؟ في الحقبة التي كادت تشهد نهاية الوعي، انطلقت ثورات الربيع العربي، تعبيرا عن المشاعر المختزنة لدى الجماهير بضرورة التحرر من الاستبداد وداعميه. لكن هذه الثورات جاءت في الوقت الذي استيقظت فيه قوى الثورة المضادة واستطاعت استرداد قوتها وعنفوانها، فتمكنت من امتصاص الصدمة الاولى، وسرعان ما انقضت على تلك الثورات فمزقتها بدون رحمة. تم ذلك بمساعدة مباشرة من «القوى الامبريالية» التي كانت حتى عهد قريب، تمثل أسوأ أشكال الشيطنة والنفاق. وبكثير من الدهاء والنفاق والخداع استطاعت هذه القوى اظهار نفسها محامية عن الشعوب التي قمعتها انظمة الاستبداد. وتدريجيا غابت الحصانة التي كانت الشعوب العربية تتمتع بها ضد الامبريالية والاستعمار والتدخل الاجنبي، فاذا بالجميع يسترضي أمريكا ويستنجد بها، ويناشدها التدخل في هذا البلد او ذاك. وغاب عن الكثيرين ان أمريكا لم تدخل منطقة إلا دمرتها، كما فعلت في فيتنام ولاوس وافغانستان والصومال والعراق وليبيا واليمن. فأمريكا لا تدعم إلا مصالحها. والامر نفسه ينطبق على روسيا وبريطانيا، هذه الدول لها حساباتها الدقيقة، ولا مكان للمشاعر الإنسانية في تلك الحسابات.

 

د. سعيد الشهابي٭ كاتب بحريني