محرقة الكتب.. | صحيفة السفير

محرقة الكتب..

اثنين, 10/04/2017 - 16:35
بروين حبيب٭ شاعرة وإعلامية من البحرين

أربعة أشهر بعد اعتلاء الحكم كانت كافية لأدولف هتلر ليشعل النار في ألمانيا. 20 ألف كتاب تم حرقها يوم 10 أيار/مايو 1933 في أول محرقة للكتب، تحوّلت يومها سماء برلين إلى غيمة سوداء سميكة، في ساحة بابل مقابل واحدة من أعرق الجامعات في العالم «جامعة هامبولدت» وأقدم جامعة في ألمانيا.
قبل منتصف الليل بقليل كانت أكوام الكتب تلتهمها ألسنة النار، دون استثناء، قذف أتباع الحزب النازي من شبان وعناصر في الجيش بسيغموند فرويد ، كارل ماركس، هاينريش مان، كورت تيشورسكي، وعظماء العلم والفلسفة والأدب في النار. وبعد هذه الحادثة، انطلقت كرة النار إلى باقي المدن الألمانية والتهمت ذخائر ما أنتجه الفكر الألماني والعالمي، وتطلب جمعه سنوات طويلة من الجهد والمال.
كانت تلك أول حقنة مخدر حقنها هتلر الغاضب في خاصرة الشعب الألماني المبهور آنذاك بأفكاره، فقد أراد سيد الخطابة وبلاغة الكلام أن ينظف ألمانيا من كل الشوائب البشرية التي تلوثها خاصة عرق اليهود. وكان سهلا أن يغرس في الفئات الشابة غير الناضجة بذور الكراهية والتطرف، ومنحهم أحلاما تقوم على التعالي العنصري الذي يمثل في حالات الهزيمة نعم الدواء للنهوض سريعا.
لكن بعد حملة حرق الكتب تلك كان أغلب المفكرين والعلماء ورجال الأدب والفن قد شدوا الرّحال إلى العواصم المجاورة مثل، باريس وبراغ ومناطق عديدة في سويسرا بحثا عن مكان آمن للعيش، وكان أغلب أولئك قد نالوا جائزة نوبل ورفعوا اسم ألمانيا عاليا في سماء العالم.
حينها علت حكمة هاينريش هاينه التي قال فيها: «حيث تحرق الكتب ينتهي الأمر بحرق الرجال».. وكانت نظرته عميقة وبعيدة، ولهذا كُتِبت حكمته تلك كشاهد أبدي في قلب تلك الساحة التي شهدت أول محرقة كتب في التاريخ المعاصر. حتى لا ينسى الألمان ما حدث، ويكررون التجربة كما كررناها نحن.
مع أن العالم الغربي عاش حرائق الكتب عدة مرات، ما عرف منذ زمن بعيد باسم «الأوتو دا في» باللغة اللاتينية ومعناه «فعل الإيمان». وعلى الأقل كثيرون منا يعرفون بشأن هذا الموضوع عن تلك المحارق التي قامت بها محاكم التفتيش في إسبانيا، التي بدأت بحرق الكتب قبل أن تنتهي بحرق البشر، وقد روى التاريخ بشاعة تلك المحارق التي لم ينج منها حتى الموريسكيون الذين اعتنقوا المسيحية وتخلوا عن إسلامهم.
في غير أوروبا كانت محارق الكتب والبشر منتشرة من الصين إلى المسكيك، في بلدان كثيرة، وكلها تقوم على مرجعيات دينية لتطهير المجتمع من الأفكار الغريبة الدخيلة على الدين المعتمد. وهكذا وقف رجال الدين في الغالب في وجه الكتّاب، وكل الأدمغة التي تفكر عكس الجماعة وتثير الأسئلة والشكوك حول المعتقد السائد.
تلاهم في هذا الفعل الإجرامي الكبير ملوك وسلاطين، خافوا أن تهزَّ الكتب عروشهم، وقد ثبتوا على تلك العروش غير مبالين إن كانت النيران قد أكلت أدمغة شعوبهم، وأفرغت أراضيهم من النُّور والسكينة، وأنهم تربعوا على أنهار من الدماء وتلال من الرماد.
في الشق الآخر من العالم كانت حرائقنا نحن، ويمكن معرفتها باختصار عبر مراحل تاريخية مختلفة، من خلال كتاب جد مهم لكاتبه ناصر الحزيمي، بعنوان «حرق الكتب في التراث العربي» إصدارات منشورات الجمل 2002، لكن الكتاب لشدة أهميته لا يزال يعاد طبعه وتتناوله الصحافة كأنه ينشر لأول مرة، ويبدو أن الإقبال عليه تزايد في السنوات الأخيرة بعد أن بالغ المتشددون في استهداف المثقفين ونتاجهم الفكري.
الكتاب لا يتوقف عن رصد محارق الكتاب عبر قراءة جادة لتراثنا العظيم الموثِّق لها واستنطاقه وإعادة ترتيب أحداثه، بل يروي لنا ما نجهله عن محارق ذاتية قام بها المؤلفون أنفسهم بكتبهم، أو إتلافها بطرق أخرى، كرميها في الأنهار أو دفنها.
يذكر التاريخ أن أبا حيان التوحيدي أحرق كتبه بنفسه، لأنه عاش على الهامش المهمل للمجتمع والشيء نفسه فعله عمرو بن العلاء بمكتبته الضخمة، وهذا فعل يفسره علماء الطب النفسي بنوع من الإنتحار بعد بلوغ مرحلة متقدمة من الاكتئاب جرّاء العيش في محيط محبط. وهو شبيه تماما بزمننا اليوم في أغلب البلدان العربية، خاصة ما عاشه كتاب ومثقفو وعلماء العراق خلال حرب الدواعش ضدهم، وعاش السوريون شيئا مشابها مع التنظيم نفسه.
وهذه مصائر محزنة لواقع الفكر التنويري لألمع ما أُنجِبَ في عالمنا، كون الشعوب العربية جميعها تعود لنقطة الصفر، كلما نُصِبت محرقة لنتاجها الفكري، وكون الإحباط نفسه يقود أدمغتنا لتدمير ذاتها، والانغماس في ركود أقله يدوم قرونا قبل بروز أدمغة جديدة.
غير حروب المغول والصليبيين تعرض أهل العلم للقمع والتنكيل والتهجير والقتل وإتلاف كتبهم، حتى من بني جلدتهم، حين استلموا مقاليد الحكم، بل إن بطل تحرير القدس صلاح الدين الأيوبي لم يكن سوى مقاتل لا علاقة له بالفكر وأهمية المكتبات، وفي الكتاب المذكور أعلاه تفاصيل عن الموضوع لا يمكن اختصارها في هذا المقام.
لكن الغالب على الفكرة التي أطرحها اليوم هي أن محرقة الكتب اليوم لم تقتل شارع المتنبي في العراق، ولم تقتل القارئ العراقي، الذي لا يزال يقبل على الكتاب الورقي، متى ما أتيحت له الفرصة. وهذا في حدّ ذاته معجزة، نرى فيها بوضوح قارئا متربعا على فوهة بركان ومستغرقا في قراءة كتاب. شيء خارق يجعلنا نشعر بأمل الاستمرار وإنتاج المزيد لا لإحراقه بل لقراءته، إذ يبدو اليوم فعل الحرق فعلا فاشلا أمام تحوّلات الكتاب من مادة ملموسة إلى اللاملموس، مع بعض التحفُّظ. فقد أصبح الكتاب شبحا ينتقل في رمشة عين عبر الشبكة العنكبوتية بمجرد تصويره وإطلاق سراحه في فضائها بكبسة زر، لينتشر في كل دول العالم مخترقا أماكن مظلمة لا تخطر على بال أحد. ولعل الخوف اليوم ليس على الكتاب وانتشاره، بل على مدى قدرة بقاء الكاتب واقفا، وهو يدفع يوميا من كرامته ثمنا باهظا من أجل بقاء الكتاب واقفا وبلوغه القارئ المختبئ في بيته ليقرأه في أمان. فقد كشفت المرحلة الإلكترونية التي بلغناها، بحمد الله ونعمته، ونحن نحاول أن نعيش تحت رحى الحروب المختلفة وهجرات شتاتنا، إنها مرحلة يُحرق فيها الكاتب لا الكتاب. فهل هناك إمكانية لإنقاذه؟ أو بالأحرى ما يمكن إنقاذه من كائن أصبح طور الانقراض، بعد مراحل عاشها داخل المحرقة التي أتلفت أعصابه، ومشاعره الرقيقة، وعطاءاته. وهل يمكن إنقاذه فعلا وهو إلى يومنا هذا يمارس «هواية» غير معترف بها على أنها مهنة، ولا تقدير حقيقيا له، مع أنّ البعض يستغل «هوايته» في وقت الحاجة ويستغني عنها حين تنتهي حاجته، وبين الفترتين يعيش حياة مؤقتة، كحياة جمرة على وشك الانطفاء في قلب الرماد.