في دولة المؤسسات، يمكن أن يتم إنتخاب حاكم معتوه بعظمته، فلا يوجد شعب في الدنيا محمي تماماً من الوقوع في هذا الخطأ الكارثي، فأحياناً يختار الشعب ليس طبقاً للمبدأ، ولكن طبقاً للمصالح والمخاوف، فيوصلون الشخص الخطأ إلى المكان الخطأ، ويكون الدرس قاسياً والثمن فادحاً. إلا أن دولة المؤسسات، حتى عندما تضع طاغية على الكرسي القيادي الأول، فإنها تسلط آلاف، ان لم يكن ملايين، الأعين على هذا الكرسي والجالس عليه، تسجل عليه حركاته وسكناته، تتدارس كل قراراته وآثارها قريبة وبعيدة المدى على جسد الدولة، تحاسبه وتراقبه وترهبه بعصا عزله القادم من المشهد ان هو لم يحسن الأداء. في دولة المؤسسات، دائماً يوجد معارضون غاضبون، حتى في أحسن حالات الدولة وفي أكثر أوضاعها أمناً وإستقراراً، فشعوب دولة المؤسسات تفهم أن المعارضة صمام أمان، وأن غضبها فوهة تنفيس، فإن غابت، غاب معها التوازن السياسي والمنطق النقدي لينفجر قدرها المغلي الملتهب في أي لحظة في وجه شعبها.
في دولة المؤسسات يوجد وعّاظ سلاطين بالتأكيد، ولكن لا توجد لهم قدسية، لا تلبسهم عماماتهم أو طواقيهم أو قلنسواتهم لباس الكمال، لا تفضي عليهم جلابيبهم حظوة ولا تمنحهم حق السمع والطاعة. في دولة المؤسسات رجل الدين كرجل السياسة، لربما لتشابه مؤسستي الدين والسياسة، لا رحمة تأخذ الشعب به إن تمادى أو أخطأ، لا قداسة يأخذ بها هو الشعب ليقسره على طريق سلطانه. في دولة المؤسسات لا يملك الحاكم أن يحكم شعبه باسم دينه، لا يستطيع إقناعهم أن تخليهم عنه سيفضي بهم الى النار، له أن يحاول من خلال وعّاظه، نعم، ولكن لن تكون لواعظه أبداً قداسة تحميه من النقد القاذع أو ترد عنه سخرية الناس، وسيبقى الواعظ وحاكمه تحت سلطان مؤسسة حرية الرأي والحق الإنساني، فلا يستطيع الواعظ أن ينمو أبداً الى حجم الكمال أو يتضخم الى درجة القدسية التي تفضي اليها مجتمعاتنا بسكوتها الخائف وأحياناً الطامع عن وعّاظها.
في دولة المؤسسات، دولة الحريات، يمر حكّام سيّئون، يتقلد مراكز القوة معتوهون، يتنصب الأغنياء الواصلون بأموالهم والطامعون بالمزيد، في دولة المؤسسات تصدر قرارات مؤذية، تمر سياسات قاهرة، تصدر قوانين غير عادلة، فدولة المؤسسات مكونة من بشر في النهاية، مخلوقات على أول سلم التطور، فقط تطور عقلهم منذ بضع ملايين السنوات ليصل إلى المرحلة البدائية التي هو عليها الآن، فلا يمكن تصور أن يكونوا قادرين، في هذه المرحلة، على خلق مجتمعات تقترب من المثالية. إلا أن لدولة المؤسسات حظوة لا يمتلكها غيرها، هي مؤسساتها وحق هذه المؤسسات في المراقبة المستمرة القاسية، هي في شعوبها وحق هذه الشعوب في المشاركة الحقيقية في حكم نفسها، هي في تقديسها لمفهوم الحرية الذي يتيح لكل بشر في حيزها على أن يقول ويكون ما يريد، هي في تعظيمها لمفهوم المواطنة الذي يعطي لكل فرد حق معرفة ما يجري وكشف ما يجري ثم محاسبة الدولة على كل ما يجري.
في دولة المؤسسات يحاول الحاكم أن يستخدم رجل الدين، ويحاول رجل الدين أن يستخدم الحاكم، في دولة المؤسسات تُنتهك الحقوق وتصدر القرارات الشائنة وتتصدر السياسات المؤذية، في دولة المؤسسات تُرتكب الأخطاء، الكبيرة منها والصغيرة، فيقع الضحايا ويتأذى الضعفاء، ولكن في دولة المؤسسات هناك «سيستم» يعدل أخطاءه بنفسه، هناك منهجية تنطبق على الجميع ويتبعها الجميع، هناك أفراد لا فرد واحد، أفكار لا فكرة وحدة، أصوات لا صوت واحد. في دولة المؤسسات النقد مقدس والغضب محمود والفرد له قيمة، أياً كان ومهما كان هذا الفرد. في دولة المؤسسات يوجد حاكم ولا يوجد تمجيد، يوجد دين ولا يوجد ترهيب، في دولة المؤسسات تعلو الحرية على ما عداها، ويهبط الفكر الأبوي الشوفيني والترهيب الغيبي الديني الى أدناهما، وفي صعود الأولى وهبوط الثانيتين، يتشكل صمام أمان قوي قادر على ضمان استمرار الدولة ونجاحها لفترة أطول. في دولة المؤسسات، لا يخوف الحاكم شعبه بالدين ولا يحكم رجل الدين الشعب من خلال الحاكم ولا يشتري الغني الشعب والدولة بأمواله، ففي هذه الدولة يسود العقل ما استطاع وتعتلي الحرية العرش أبداً.
وها نحن في انتظار أن تنقذ الولايات المتحدة نفسها ان كانت دولة مؤسسات حقيقية.
د. ابتهال عبدالعزيز الخطيب