الكتابة عن الراحلين من الشخصيات العامة في لحظات الفقد الأولى مربكة، لضيق الحدود أثناء الكتابة بين خواطر الحزن و رصد السلوك الإنساني من رؤية لا تختلف عن الكتابة حول الأحياء إلا في وجوب الامتثال للأحاديث النبوية الشريفة ( اذكروا محاسن موتاكم) و(لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا) رغم أن الإنسان العادي كما فطره الله، لا يكتمل إلا بعيوبه.
الرئيس اعل ولد محمد فال، رحمه الله، يكاد ينعقد إجماع من عرفوه على ما تميز به من حسن خلق ظل لازمة لا تفارقه على النحو الذي يؤكد أنها جزء من ماهيته كما تقرر لدى من عرَّفوا هذه الجبلة من الفلاسفة بأنها هيئة للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية . لازمته هذه الفضيلة حتى في الظروف والمهام التي تنافي الأخلاق مقاصدها، كما هو حال المحققين ومنتزعي الاعترافات الذين يعتبر الفقيد بحكم منصبه السابق شديد الصلة بهم بعد أن ظل مديرا عاما للأمن طيلة فترة نظام أمضى عقدين من الزمن ( 1984/2015) ارْتُكِبَ فيهما كثير من الانتهاكات الجسيمة في حق مختلف شرائح المجتمع وقواه السياسية، بينما لم نقف في وثائق هذه الفترة التي دققنا طويلا في الكثير من المتاح منها على ورود اسمه في جلسات التعذيب ولا التحقيق، وكان بعضها وحشيا على المستوى البدني وضاجا بأغنى قواميس ومصطلحات السباب البذيئ، كما يصفه بدقة أحد أبطال رواية عبد الرحمن منيف ( الآن هنا) من سجن موران : ( في وقت متأخر حين كنت أستعيد حفل الاستقبال الذي جرى وأتذكر بعض الشتائم التي كنت أرد بها على شتائمهم وضرباتهم لا أتمالك نفسي من الابتسام لقد كان قاموس شتائمي فقيرا محدودا ليس فيه أي إبداع أو خيال ولا أبالغ إذا قلت أنه كمثل إبرة تريد أن تحفر جبلا، كانت تلك الشتائم تثير سخريتهم وكانوا يردون عليها بأحدى الطريقتين أو بالطريقتين معا، بشتائم تفوق حجما عشرات المرات أو بطريقة عملية) ومعلوم أن حال السجون والمحققين واحد في كل البلاد العربية، ولم يرد فيما وقفنا عليه من روايات معتقلي هذه الفترة الطويلة إلا أن الرجل ـ وهو وحده فقط ـ ظل غائبا عن تلك الجلسات، كما تجمع الروايات الشفهية القاطعة لمعتقلي 1986، 1987، 1988، 1995، 2003، وكما تؤكد الوثائق المكتوبة عن مراحل من هذه الفترة بشكل مباشر وأولها كراس (لينقطع الصمت) الموزع في بداية 1889، من قبل مجموعة من طلاب جامعة نواكشوط كتبوا عن تجربة مرورهم بجلسات تحقيق وتعذيب كانت قوية وشديدة رغم أنها عابرة، وكذلك كتاب (عائد من ولاتة) لآلاسان هارونا الصادر عن دار لارماتان 1999 من 166 صفحة وكتاب (جحيم إنال)، لمؤلفه سي آمادو الصادر عن دار لارماتان نفسها 2000 من 186 صفحة كلها لم يشر أي منها إلى الفقيد بشكل مباشر رغم اشتمالها على كثير من الأسماء والأرقام والوقائع والتفاصيل الدقيقة..
ومن شهادات العيان كما يقال أنه في أواخر سنة 1990 كانت جامعة نواكشوط تغلي على إيقاع ما يحضر من عدوان على العراق، وسرعان ما تم توقيف مجموعة من أفراد اللجان المشرف على ذلك الحراك، وكنت من بين من اعتقلوا، بمباني إدارة الأمن، وأدخلت لاحقا مع زميلي حمدي ولد احمد المنحدر من مدينة تامشكط إلى مكتب مدير الأمن ويجلس إلى جانبه مدير أمن الدولة دداهي ولد عبد الله، كان هادئا وقورا وتحدث طويلا عن خطر القلاقل في بلد تجاوز فيه الموقف الرسمي الداعم للعراق موقف الشعب، لم نلمس تهديدا ولا وعيدا كالذي لاقيناه من مساعديه، بل قابلنا بالإقناع وقوة الحجة، ونحن شباب يافعون قبض علينا رجاله نحرض على التظاهر والعصيان، وسأرى منه أمرا مشابها بعد أربعة عشر سنة حين أدخلت إليه وقد تأخر الليل في جلسة تحقيق أوائل يناير 2004، وهمَّ مُعد الشاي أن يقرب الصينية منه قبل أن يشير رحمه الله بإيماءة يغلبها الحزم والهدوء والوقار أن عليه أن يبدأ بالزائر، فهو في العرف الأخلاقي ضيفا حتى وإن كان قد جيء به مجلوبا للتحقيق، ذلك أن من كانت الأخلاق ثقافته تبقى تسري فيه مسرى الروح والدم في كل المواقف والأوقات، و تكرر الأمر معه رحمه الله حين شاركنا ضمن وفود غير رسمية في منتدى الدوحة الديمقراطية، المنعقد في مايو 2007، وجاءته زهاء مائة مفكر وسياسي من مختلف البلدان العربية وعرب المهجر تداولوا عوائق التقدم السياسي في البلدان العربية، وكانت جل شخصيات الوفود تبحث عن الرئيس الذي غادر السلطة طواعية قبل أسابيع وتريد اللقاء به، بل تريد اللقاء بأي موريتاني تلتمس منه ( بركة) و(اريج) التناوب السلمي على السلطة المسكوب في جزء ناء من وطن مسكون بحكم الوراثة العائلية والأفراد والانقلابيين..وقبل الافتتاح طلب منا: أنا والزميل محمد الأمين السالم ولد الداه، الزميل عثمان ولد آكجيل أن نذهب إلى الرئيس لزيارته في جناحه، عند دخولنا عليه استقبلنا واقفا مبتسما مرحبا مناديا على ابنه محمد الأمين ( جيب المعايلْ) الكراسي جيب ( المعايلْ) الشراب، ولم يترك الأمر له رغم إسراعه في التنفيذ بل توجه بنفسه إلى الصينية ودفع بها إلينا.. وكانت البعثات الصحفية تزدحم بكثافة امام جناحه كل فريق منها يريد مقابلة، لكنه بقي معنا يدير الحديث وأنواع الضيافة، وفي تلك الأثناء أدخل الحراس عليه موفدا تبين أنه مدير ديوان الأمير حمد وسلمه دعوته الرسمية للافتتاح، لكنه عاد إلينا مصرا على بقائنا معه في ذلك الوقت الضيق حتى إكمال الشاي الذي بدا إعداده من طرف ابنه في جو من التواضع والكرم فريد.
رحمه الله، وغفر له وباعد بينه وبين خطاياها كما باعد بين المشرق والمغرب.