«حكايتنا إحنا الاتنين»… تكشف جوانب خفية في حياة سيد مكاوي | صحيفة السفير

«حكايتنا إحنا الاتنين»… تكشف جوانب خفية في حياة سيد مكاوي

خميس, 11/05/2017 - 15:09

بكلمات مدادها مزيج من حب جارف وشجن وألم الفراق، ترسم أميرة مكاوي صورة تكشف الكثير من أسرار وحكايات والدها الملحن والمغني المصري الراحل سيد مكاوي، الذي تحل هذا الأسبوع الذكرى التسعون لميلاده.
لسنوات طويلة أحجمت أميرة عن الكتابة عن أبيها وسيرته إلى أن تثبت أنها فعلا أهل لذلك. وعندما حانت الخطوة المؤجلة، اختارت أميرة عنوانا رئيسيا لمقالاتها «حكايتنا إحنا الاتنين».
العنوان ذو معنى مزدوج.. تلك الحكايات التي تجمع الأب والإبنة، وفي الوقت ذاته يحمل إشارة لها مدلول لتاريخ أبيها الفني.. فهذا هو اسم أول أغنية عاطفية لحنها والدها وكانت للفنانة الراحلة ليلى مراد، وأول خطوة في مشوار شهرته الحقيقية. ومن العنوان الرئيسي تتشعب العناوين الفرعية لكل مقال.
الكاتبة أطلقت لنفسها العنان في الحكي عن أكثر ما مس روحها في علاقتها بأبيها، فقد بدأت الحكاية من منتهاها: من وفاة الأب.
في أول مقالاتها التي تنشرها تباعا على موقع (بوابة الحضارات) الإلكتروني تستهل أميرة الابنة الصغرى لمكاوي الحكي ربما بأكثر ما أوجعها في حياتها.. الرحيل.
تقول «وجدته ملفوفا في قماشة بيضاء، نحيلا من تحت عباءة الموت. كان أول مشهد للكفن تراه عيني، وأول ملمح لغيابه يصدمني. قبل دقائق كنت أجلس بجواره وهو «ميت» كما يزعمون، أحكي له وأطمئنه أن لا يخاف، وتلك الابتسامة الهادئة على وجهه لا تذبل، فقط حرارة جسمه تتناقص ولا أراه يشعر ببرد، والابتسامة لا تفارقه. لماذا ألبسوك هذه العباءة البيضاء وأحكموا إغلاقها عليك وجعلوا رؤية وجهك مستحيلة؟».
في المقال الأول الذي بدا وكأنه متنفس لأحزان ابنة فقدت أباها الحبيب تستعيد أميرة ذكريات انحفرت في نفسها فلازمتها سنين. تقول في المقال الذي أسمته (الخاتم والرحيل) «كنت معه وحدي في العاشرة من عمري حين سقط أمامي على سلم مترو الأنفاق في مدينة قساة القلوب لندن، ظللت أصرخ وأنادي «بابا» وأنا أراه يتكور على نفسه ويلتهمه السلم الطويل جدا حتى وصل إلى منتهاه. لم يصب بأي عرض جسدي، ولكن الندبة النفسية التي تركتها فكرة السقوط أمامي ظلت محفورة في وجدانه».
تحادثها نفسها بأن وجوده في غرفتها تحديدا حين وافته المنية لم يكن من قبيل المصادفة، وإنما اختيار روح لروح. وتقص كيف أنه عاد من المستشفى «لينام في غرفتي لكي يرحل من مكاني لا من مكانه». ومن يومها باتت «أميرة سيد مكاوي». تقول «الآن أعرّف نفسي هكذا. قبل رحيله كنت أكتفي بـ»أميرة مكاوي». كانت تتملّكني رعونة الشباب أنني أنا وحدي دونه أستطيع أن أكون».
كان هذا عن الرحيل، أما عن الخاتم فتقول «عدت إلى غرفتي وهي خاوية من جسده إلا من أثره. داعبت خاتمه في يدي. أخذت من يده الخاتم ووضعته في إبهامي لاختلاف حجم أصابعنا وهو مريض (لم يفارق يدي من حينها إلى الآن)». ثم تقول على لسانه «الخاتم ده معمول في خان الخليلي. أنا كنت باروح هناك وأنا صغير واقعد مع أصحابي هناك واتفرج على شغل الدهب والصاغة».
تلحظ الإبنة كثرة استخدام والدها الكفيف لكلمة «أتفرج» و»أشوف» وكيف كان يتحدث بدقة عن ملامح الأشياء والأشخاص وكأنه يبصر أفضل من المبصرين.
ولا تخلو روايات الإبنة من روح الفكاهة، التي اتسم بها والدها، واستخلاص الضحكة من رحم الأزمة. في مقال (هو انت بتشوف إيه؟) تنقل عنه «انت عارفة انهم زمان وقت جمال عبد الناصر كانوا عارضين عليَّا أعمل عملية في الاتحاد السوفيتي وافتَّح؟ (استوقفتني الكلمة واستخدامه «أفتَّح» مش «أشوف»، يعني هو شايف بس مغمض!) بس أنا مارضيتش… يعني أنا متخيل الشجرة حاجة، أفتح ألاقيها حاجة غيرها؟ أتصدم فيها ليه؟ الحمار مثلا أفتح أنا ألاقيه حاجة تانية، أقوم أزعل منه وأنا بحبه؟
«يضحك عاليا ويميل رأسه إلى الوراء، هكذا كان يُبَسِّط جميع الأشياء، يحكيها دون خجل، مصحوبة دائما بضحكة وابتسامة وسخرية. من يخجل من ماضيه فليس له حاضر، هكذا كان يقول».
وبذات السخرية من الأقدار تتحدث أميرة في (مشوار المكتب وبيت جدتي) عن طفولة أبيها وكيف فقد بصره في اختبار إلهي زاد بالقطع من بصيرته «أبو السيد وُلد فقيرا في حارة قبودان في السيدة زينب لأسرة مثقلة بثلاثة أبناء وثلاث بنات، وفقر يأكل الأرواح، أصابه مرض ما في عينيه وعالجته أمه بفقرها وجهلها وبساطتها بإضافة مسحوق البن في عينيه، «مش كانوا يحطوا لي شاي أظرف؟». أخذ بصره في الرحيل رويدا رويدا إلى أن حل الظلام مكان النور».
وتمضي في حديثها الممتع وأسلوبها السهل السلس، الذي يمس أوتار القلب ويدخله دون طرق على الأبواب «ظللت إلى أن أتممت السابعة من عمري على يقين أنه مبصر، فكيف وهو لا يرى يتحرك بهذه الأريحية؟ يلعب الدومينو بحرفية قاهر لا يستطيع أحد أن يغلبه! يصلح الأجهزة حين تتعطل في المنزل، يدير كل شيء بروح وعقل مبصر. إلى أن رأيته يوما دون نظارته السوداء وعلمت أن أعيننا لا تتشابه».
في (حقك عليا)، تستعيد أميرة برهافة كيف ظل (أبو السيد) كما تطلق عليه يعتذر لها لأنه في صباها أعرض تحت وطأة ضغط العمل عن الاستماع لقصة كانت قد كتبتها وأعجبت بها أمها. جاءته الكاتبة الصغيرة لتسمعه ما كتبت فاستمهلها، وبعد برهة عاودت السؤال، فاستمهلها. ولما عاودت الطلب قال «يعني هاسمع أحمد شوقي يا خي؟».
تمضي الكاتبة مستعيدة أيام كتاباتها الأولى «خرجت من غرفته مسرعة كي «لا يراني» وأنا مكسوة بالخجل والدموع حبيسة في عيني. دخلت غرفتي وبكيت كثيرا حتى أجهدتني الدموع». وتروي كيف أنها مزقت ما كتبت وكيف ظل الأب الحاني يعتذر سرا وجهرا طوال حياته عن هذه الواقعة التي أوقفتها عن الكتابة سنوات.
وتنهي مقالها العذب «رجوته ألا يشعر بالذنب، فأجاب: لا خلاص، ما دام هيبقى فيه كتابة يبقى أنا كدا فـُلّ. ضحكنا.. ورحل قبل أن أقرأ له ما كتبت. هنالك تخلَّص من شعوره بالذنب، وها أنا ذا أكتبه، حتى يستريح كلانا». وتتطرق الإبنة في (مدام مكاوي الشهيرة بنونا) لقصة الحب الوطيدة التي جمعت بين أبيها وأمها ابنة التاجر الكبير في دمنهور التي أصرت على أن تكمل تعليمها الجامعي «ورحلت إلى القاهرة محملة بأحلام كثيرة وموهبة فذة في الرسم ألحقتها بكلية التربية الفنية». وتقص كيف أنها «وقعت في غرام» سيد مكاوي قبل أن تلقاه وكيف أنها حين تعمدت لقائه بحجة تقديم «اسكتشات» لمشروعه الفني الجديد (الليلة الكبيرة) سألها بمجرد أن صافحها ولمس يدها «تتجوزيني؟».
تروي أميرة تفاصيل «قصة حب وكفاح تستحق أن تُخَلَّد بين اثنين جمعهما مع الحب عشق الفن والثقافة وكل ما هو جميل» وكيف آمنت زينات خليل التي كان يدللها زوجها باسم نونا به وحرصت على أن توفر له سبل الراحة حتى يتفرغ لفنه تفرغا كاملا وكيف تخلت طوعا عن حلم احتراف الرسم.
ولطالما ناشدت أميرة سيد مكاوي الجميع أن يحتفل بذكرى «ميلاد» أبيها لا «رحيله». وفي كل عام توجه الدعوة نفسها، متسائلة «ما الجميل في أن نحيي ذكرى مؤلمة؟ تمنيت لو أمحو يوم وفاته من التاريخ».
الفنان الراحل من مواليد الثامن من مايو/ أيار 1927. ونشرت ابنته على صفحتها على «فيسبوك» في ذكرى مولده الاثنين الماضي مجموعة من أعماله منها لقاءات وأغان قد لا يعرفها كثيرون.
صدر لأميرة سيد مكاوي كتاب (في قهوة ع المفرق) كما أن لها مقالات في عدد من المجلات والصحف والمواقع الإلكترونية.

(رويترز)