ليبيا: فرصة الإنقاذ الأخيرة | صحيفة السفير

ليبيا: فرصة الإنقاذ الأخيرة

أحد, 14/05/2017 - 17:43

بعد سنتين من الأخبار السيئة التي ظلت تتدفق من ليبيا، من دون أن ترافقها بارقة أمل صغيرة، انطلق الشهر الماضي مسارُ حوار بين الأخوة الأعداء، بتأثير من قوى اقليمية ودولية، بما فيها جهود الأمم المتحدة. لكن لم تتبلور حتى الآن ملامح مخرج سياسي يُمكن أن يُشكل أساسا لـ»مقايضة تاريخية» بين الفرقاء. في البدء نجح الإيطاليون الشهر الماضي في جمع عبد الرحمن السويحلي رئيس المجلس الرئاسي المنبثق من اتفاق الصخيرات (مقره في طرابلس ـ غرب) وغريمه عقيلة صالح رئيس البرلمان (مقره في طبرق ـ شرق)، من دون أن يتوصل الاجتماع إلى خطوة حاسمة في اتجاه المصالحة، وإن بعث برسالة تهدئة وطمأنة. ثم تحقق الاجتماع المرتقب منذ آشهر بين فايز السراج وخليفة حفتر في الإمارات، حاملا آمالا أكبر باجتراح خطوة تضع الصراع بين القوى المتنفذة في الشرق والأخرى المُسيطرة في الغرب على سكة التسوية السلمية.
ما من شك بأن هذا المسار الهش سيتعرض لضربات ونكسات من هنا وهناك، ولاسيما من الأطراف المستفيدة من الوضع الراهن سواء أكانوا تجار أسلحة أم شبكات تهريب وجريمة منظمة. كما أن ارتباط بعض السياسيين الفاسدين في الفريقين المتصارعين بأجندات أجنبية سيُفسح المجال أمام استخدامهم لتلغيم مسار المصالحة عند الحاجة. غير أن العنصر الجديد في المشهد الليبي يتمثل في ارتفاع منسوب الغضب لدى المدنيين شرقا وغربا، بعدما ساءت أوضاعهم الاجتماعية على نحو غير مسبوق، ما يُؤشر على احتمال حدوث انفجارات اجتماعية لن تستطيع أجهزة الأمن ولا الميليشيات احتواءها. وبالرغم من الملاحقات والاغتيالات وكتم الأنفاس التي كانت الجمعيات والنقابات ومؤسسات المجتمع المدني عُرضة لها، منذ انفجار الصراع بين «فجر ليبيا» و«عملية الكرامة» في 2014، فإن حدة الأزمتين الاقتصادية والاجتماعية عززت من صفوف المُنتقدين للطرفين المتحاربين.
والظاهر أن الجزائريين هم الأكثر إدراكا لاحتمالات تفجُر الوضع الاجتماعي، بحكم تواصلهم مع طيف واسع من الفاعلين في الأزمة الليبية، ما حملهم على تسريع خطى مبادرتهم وعدم انتظار شركائهم المترددين وخاصة مصر. بهذا المعنى يُعتبر اللقاء الأخير بين السراج وحفتر ثمرة لجهود اقليمية ودولية، وفرصة أخيرة أمام اللاعبين بالنار لحقن الدماء وإنقاذ البلد من شبح التقسيم. وسيُضطر السياسيون وقادة الميليشيات شرقا وغربا، الذين أنهكوا بعضهم البعض، إلى مسايرة مطالب القوى الكبرى الضالعة في الملف الليبي، بما يحد من حرية القرار واستقلاله. واستطرادا سيدور الحل السياسي حول المربع المشترك بين مصالح تلك القوى المتنافسة على النفوذ في ليبيا الغد. فالإيطاليون مسكونون بهاجس تنفيذ اتفاقات سابقة منحتهم وضعا مُميزا في استثمار مصادر الطاقة، بالإضافة لإقناع الليبيين باحتواء موجات الهجرة غير الشرعية المُنطلقة من سواحلهم نحو الجزر الإيطالية. وفي هذا الإطار تبدو روما العاصمة الأوروبية الأكثر تحركا في الملف الليبي، مع محاولة تهميش أدوار شركائها في الاتحاد الأوروبي، وبخاصة فرنسا. أما موسكو فوضعت ثقلها في الميزان للعودة إلى ليبيا من الباب بعدما أخرجها خصومُها الأطلسيون من النافذة في 2011. وهي حريصة، إلى جانب علاقاتها الخاصة مع خليفة حفتر في الشرق، على إقامة علاقات دائمة مع المجلس الرئاسي والقوى السياسية في المنطقة الغربية، مثلما تدل على ذلك الزيارات المتكررة للسفير الروسي إلى طرابلس، وزيارات شخصيات ليبية مؤثرة إلى موسكو. ماذا يُريد الروس من ليبيا؟ تُركز موسكو على ثلاثة محاور هي تجديد صفقات الأسلحة السابقة وإفساح المجال أمام شركاتها النفطية للفوز بعقود لاستثمار النفط والغاز والمشاركة في عمليات الإعمار عندما تضع الحرب الأهلية أوزارها. ويعتقد الروس أن خسارتهم نتيجة إسقاط نظام معمر القذافي بلغت أربعة مليارات دولار جراء تعليق تسليم أسلحة كانت طرابلس اشترتها من روسيا وإيقاف تنفيذ مشاريع في قطاعي الطاقة والبنية الأساسية.
مع ذلك تبدو التخمينات في شأن رغبة موسكو ببناء قاعدة عسكرية في شرق ليبيا، بعيدة عن الواقع، أولا لأن حليفها الماريشال حفتر لا يستطيع أن يفعل ما يشاء في المنطقة الشرقية، وثانيا لأن إقدام طرف من الأطراف على خطوة من هذا القبيل سيُسمم علاقاته مع الأطراف الأخرى، وينسف فرص الحوار والتعايش، وثالثا، وهو الأهم، لأن وجود مثل تلك القاعدة سيكون مُكلفا للروس في وضع اقتصادي صعب. والأرجح أن موسكو تتطلع إلى تعزيز موقعها في شرق المتوسط بفضل إقامة محور قوي يشمل دمشق والقاهرة وطرابلس (أو بنغازي)، إلى جانب علاقاتها المتينة مع الجزائر.
يُقاتل الفرنسيون في هذا المشهد المتشابك من أجل المحافظة على الامتيازات التي منحها القذافي إلى شركاتهم النفطية خلال شهر العسل مع الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي، قبل أن ينقلب الأخير على «صديقه» ويقود عليه حربا ضروسا. وهذا الهاجس هو الذي يحملهم على تقديم الدعم العسكري والسياسي للماريشال خليفة حفتر، خاصة بعدما بات يسيطر على منطقة الهلال النفطي، مع إقامة علاقات موازية مع المجلس الرئاسي واستقبال فايز السراج في باريس أكثر من مرة. تسبح هذه التجاذبات الدولية على أرضية ملتهبة يُجسدها الوضع الاجتماعي الموغل في التردي جراء تراجع الدخل الفردي وتضعضع الاقتصاد القائم بالأساس على تصدير المحروقات. ومع أن المنتوج المحلي من النفط تضاعف في غضون سنة ليصل إلى أكثر من 700 ألف برميل في اليوم، فإنه مازال بعيدا عن مستواه في 2010 أي 1.6 مليون برميل في اليوم. وتسبب تراجع الأسعار العالمية وغياب الاستقرار الأمني، بالإضافة للفساد الذي رافق جميع الحكومات، بانهيار قيمة العملة المحلية وتعمق الهوة بين أسعار السوق الرسمية والسوق الموازية. ومن الخيارات المتداولة في هذا الإطار تعويم الدينار أو التخفيض من قيمته بدعوى تأمين السيولة، والمحافظة على ما تبقى من احتياط العملات الأجنبية، وتوفير فرص عمل للشباب العاطل عن العمل. غير أن الخبراء الاقتصاديين يُرجحون أن تُفاقم مثل هذه الاجراءات من الأزمة المالية، بالخصوص وسط التوتر القائم بين فرعي بنك ليبيا المركزي في كل من طرابلس وبنغازي، والخلافات المُستحكمة داخل المؤسسة المالية المركزية نفسها بين ديوان المحاسبة في طرابلس من جهة والمصرف المركزي من جهة ثانية.
غير أن الحل الجذري لهذه المعضلات الاقتصادية يبقى سياسيا في الدرجة الأولى، فكثير من الصراعات والتوترات هي امتداد للخلاف بين الفرقاء السياسيين، ما أصاب كثيرا من مؤسسات الدولة بالشلل، وجعل ما تبقى منها يتخبط مع بداية كل شهر جراء العجز عن صرف الرواتب وتأمين السيولة في المصارف. وما من شك بأن وطأة الأزمة المالية ستخف إذا ما تحلحل الوضع السياسي وتراجع منسوب التوتر بين القوى المتصارعة، لأن ذلك سيُعيد الاستقرار والأمن إلى طريق النفط والغاز، سواء أكانت حقول الإنتاج في الهلال النفطي أم موانئ التصدير على الساحل. لذا فإن نهاية الصراع الأهلي هي الإطار الذي سيُتيح العودة تدريجا إلى مستوى إنتاج 2010 واستطرادا إيجاد الحلول لكثير من المعضلات الاقتصادية والاجتماعية، بما فيها مأساة المُرحلين وتزايد نسبة الفقراء والأضرار الجسيمة التي لحقت بالبنية الأساسية.
بهذا المعنى يُعتبر الحوار الجاد والمسؤول بين الفرقاء السياسيين للوصول إلى توافقات تُلغي الاستقواء بالسلاح، في ظل مباركة اقليمية ودولية، الفرصة الأخيرة لإنقاذ ليبيا من سيناريو كارثي.

 

رشيد خشانة