تتواصل اللعبة التفتتية في العالم العربي منذ عقود. فمع وجود مؤسسات غربية (أمريكية/ بريطانية أساسا، وبالتحالف العلني المصلحي المباشر وغير المباشر مع إسرائيل/ الحركة الصهيونية) تصيغ مخططات وتصورات استراتيجية لتقسيم المنطقة إلى كانتونات عرقية ودينية وطائفية ومذهبية وقبلية، تتواصل اللعبة! وفي هذا السياق، يهمنا تبيان أسباب/ عوامل نجاح هذه المؤسسات في الترويج/ طرح خطط “فاعلة” لتقسيم منطقة الشرق الأوسط تحديدا، مع التأكيد على أن هذه المؤسسات لا تمارس دورها – غالبا – بالتدخل المباشر وإنما تتحرك عبر تشكيل “جماعات ضغط” توجه صناع القرار من أجل تحقيق أهدافها بعد تشكيل رأي عام، وبالذات في البرلمانات، مؤيد لفكرة ما أو معارض لها بشكل يتيح التجنيد والتحشيد – لدعم ذلك الرأي في مراكز القرار. وهي كثيرا ما تبادر إلى طرح الفكرة، دون أن تتبنى – دوما – تطبيقها علانية، بل تفعل ذلك من تحت الطاولة ووسط ستائر من الدخان البحثي/ الإعلامي. فما هي عوامل/ أسباب نجاح المؤسسات آنفة الذكر؟
أولا، ما أسماه مفكرون “القابلية للاستعمار”: نجاح المستعمر في خلق نموذج من الحياة والفكر، جعلت الشعوب تقبل بالحدود التي يرسمها لها الاستعمار، بل وتدافع عنها حتى لا تزول تلك الحدود، وهو أمر ناتج عن إقناع الاستعمار للافراد المستعمَرين بتفوقه عليهم وعدم قدرتهم على إدارة شؤون حياتهم بدونه، ودونيتهم في كل شيء، ومن ثم “إيمانهم” بفشل فعل الرد الرافض والمقاوم.
ثانيا، “القابلية للتفتيت” ومعاداة التنوع: وترتبط بما هو معروف عالميا من أن التعددية الثقافية والتنوع العرقي والطائفي بل والمذهبي هي من سمات التركيبة الديموغرافية لسكان الغالبية من الدول ومن ضمنها معظم الأقطار العربية. لكن للأسف، هذه المواصفات، في شطر واسع من عالمنا العربي، جاءت “مثالية” لترسيخ الفتنة المجتمعية، مع تنامي المشاعر الإثنية والجهوية والقبلية والدينية والمذهبية داخل الدين الواحد، فبدأت “تتكاثر” التنظيمات الدينية المتطرفة التى أخذت في الانتشار والازدياد وأصبح العنف هو أساس تحقيق فكرها وتأمين وجودها.
ثالثا: الجمهوريات العربية القطرية: فما نجم عن واقعها البائس، وما فعلته بالوطن والمواطن، أدى إلى مصادرة للحريات بل قمع واضطهاد، وتخلف شامل. وبذلك، فإن الدولة القطرية، في “مرحلة الاستقلال”، لم تنجح في بناء المواطنة والولاء للدولة، وبقي الأمر محصورا تقريبا في توفير مصالح الفئات الحاكمة. وقد جاء كل ذلك على حساب المواطنة، في ظل تنامي الشرائح المختلفة لمن اصطلح على تسميتهم (المهمشون) الذين وظفوا في خدمة النظام القطري أو التطرف، وغالبا بتلقائية وبدون وعي.
رابعا: الأيديولوجيات القومية المعطوبة: حيث فشلت هذه في وضع رؤية فكرية واضحة توحد فكر المؤمنين بها، فأصبح من سمات القوميين التفكك والاختلاف بين قومي اشتراكي، وقومي ليبرالي، وقومي علماني في ظل صراعات سياسية حزبية.
خامسا: الشرق الأوسط منطقة في غاية الأهمية للغرب الاستعماري الرأسمالي من كافة النواحي، فهي خزينة من المواد الخام الأولية وتحوز على أكبر احتياطات النفط في العالم، فضلا عن كثافة سكانية مؤهلة لان تكون سوقا تدر أرباحا لا يستهان بها، وموقع استراتيجي مهم في إطار تكامل النظام الاستعماري وخاصة التواصل مع مناطق النفوذ في شرق آسيا.
سادسا: بعد زوال الاتحاد السوفيتي، سعت الولايات المتحدة لقيادة العالم، ولهذا، احتاجت لمناطق ارتكاز إقليمية في مختلف البقاع، وبالذات في الشرق الأوسط الذي يمتاز بموقع جغرافي مهم في هذا المجال، فيستحيل مثلا إدارة المعارك في أفغانستان أو العراق من واشنطن أو نيويورك، بدون “توظيف” المنطقة، والعمل على رسم خريطة سياسية تخدم أغراضها العسكرية.
سابعا: الأمن الإسرائيلي الذي كان وما يزال من أولويات الإستراتيجية الأمريكية في المنطقة. فالدولة الصهيونية رأس الحربة الأمريكية تشكل امتدادا لسياساتها في المنطقة، وهي مهمة خاصة بعد انقضاء عهد الاستعمار القديم وتواجده العسكري المستجد في بلدان المنطقة كي يشكل البديل كقوة عسكرية قريبة من مركز الأحداث وعلى أهمبة الاستعداد للتدخل عندما تتعرض مصالح الغرب للخطر.
كل المخططات الاستعمارية تنبع من غطرسة القوة، حين تتصور دولة ما أنه يمكنها فعل ما تشاء طالما أن موازين القوى في صالحها، وطالما أن استعداداتها العسكرية تفوق استعدادات الخصوم، وبالخصوص في ظل التعامل مع الدولة الصهيونية ولوبياتها في دول العالم الغربي خاصة تلك التي تروج لأفكار وطروحات تخدم المصالح العليا لإسرائيل وللحركة الصهيونية على حد سواء وفي طليعتها الطروحات التفتيتية لدول العالم العربي.
إن التقسيمات المروج لها لم تأت على أساس خرائط معدة مسبقا، بل أعدت على أساس وقائع ديموغرافية (الدين، القومية، والمذهبية). وبما أن “تصحيح الحدود الدولية” يتطلب توافقا لإرادات الشعوب، معروف أنه من المستحيل تحقيقه في الوقت الراهن، كان لا بد من سفك الدماء العبثي الراهن وصولا إلى هذه الغاية!!!
د. أسعد عبد الرحمن* باحث – كاتب – سياسي