العماء هو اللغز المحير الذي تحاول الأساطير منذ الدهور الغابرة أن تعيد إليه كل شيئ ويعتبر منظرو الأفكار الإنسانية أن التعامل الموغل في الانزياح عن مبادئ العقل الكلية مع ظواهر الوجود كلها هو ثمرة لتقلباته المتعاقبة. وأي عماء أشد من أن يتوقع بعض العرب اليوم أن زيارة وتوقيع اتفاقيات مهما كانت كُلفتها يمكن أن تحول حسائف النمور إلى حملان وديعة، وأن توقف خطوات اليمين الأمريكي في زيادة نفوذه في وطننا العربي وتَحُدّ من فتح مزيد من شهوته نحو ما تزخر به أرضنا من خيرات ويمثله موقعها الاستراتيجي من اهمية كبرى لتأمين مصادر الطاقة وحماية حليف أمريكا التاريخي ، الكيان الصهيوني، الذي جَعلت إدارات البيت الأبيض المتعاقبة قوة أمريكا دوما في خدمة رغباته، وأقنعته باستمرار أن حق رغبته هو ككيان زُرِعَ بالقوة يظل محصورا في قوته.
أي عماء أشد من أن يتوقع طرف في العالم اليوم أن طرفا آخر يمكن أن يتحول إلى مؤسسة حراسة أمنية يتعاقد معها كما يفعل الأفراد والمؤسسات ليؤمنوا أنفسهم وأموالهم، خصوصا في ظل الاندفاعات الهائلة المتواصلة لدى دول كثيرة في العالم للتسلح وتطوير مختلف أنواع وأحجام اسلحة الدفاع عن النفس، والثقة بالنفس، والشعور بالكرامة وراحة البال.. وفي ظل اندفاعات متواصلة لقوى إقليمية نحو تطوير اسلحتها ووسائل هيمنتها على إرادتنا واحتلال وقضم المزيد من أراضينا : الكيان الصهيوني، أيران، تركيا.. أي عماء وأي وهم أشد من وضع وهم مقابل وهم، والبحث عن أمن وسلام مع استمرار الخوف الذي يفترض أن يلغيه هذا السلام، وقد كان مصدر خوفنا كل خوفنا وما زال هو أطماع أمريكا وترسانة مصطلحات تفسيرها وتبريرها لإهانتنا التي تجعل السلم احيانا مرادفا لهزيمتنا ورضوخنا واستسلامنا.
خوفنا وتوجسنا كان مصدره الأول هو تناقض خرائط تحالفات امريكا وزيف شعارتها بدءا ( بإيران كيت) وانتهاء بكذبة تحرير العراق وتخليصه من أسلحة الدمار ونشر الديمقراطية في الوطن العربي..
إن استعادة المناعة الضرورة لعقل الحكام العرب اليوم والرؤية الصحيحة يبدآن حين يتمكن الرأي العام العربي من دفع هؤلاء الحكام لوعي حقيقة ثابتة وهي أنه لا يستطيع احد أن يشارك العرب الألم الذي يحسون به، احرى إن كان هو المسؤول تاريخيا عن قروحه المتقيحة ، وأن يبادروا في ما تبقى لهم من كيانات مستقرة إلى انتهاج سياسة وفاق عربية تعيد صياغة مشروع الأمن القومي العربي وفق متغيرات المنطقة والعالم بما يصون الحقوق العربية الثابتة ، ويحرر أراضيهم ودولهم المحتلة ويعيد لها دورها في بناء قاعدة النهوض والمساهمة في استعادة الأمة لألقها الحضاري ودورها المنتظر الفاعل في توفير السلم والأمن في العالم، فهي أمة برهنت وأكدت على أن لديها قوة واحتياطا دائمين حتى وهي تحت الاحتلال وخاضعة لاضطهاد القوة، كما هو حال المقاومة في فلسطين والمقاومة في العراق ومناطق عربية أخرى كثيرة.. أما غير هذه الرؤية فلا يترك للعرب اليوم غير مشاريع خنوع واستسلام و( المفاضلة) بين أشكال استعمارهم واضطهادهم و أن يختاروا ( المَرَقَ) الذي سَيُأْكَلُونَ به، وجهة النار التي بها سيحرقون.
افتتاحية حزب الصواب، الاثنين: 29/05/2017