الشيخ محمد عبد الله بن آدَّ البوصادي نسبا والقادري طريقة، ولد ونشأ في بيت تقوى وورع في مطلع القرن الثالث عشر الهجري (تسعينيات القرن التاسع عشر الميلادي) في المنطقة الواقعة بين أفل وآوكار المكف وتربى تربية أقرانه في بيئته حيث التحق بالمحظرة فحفظ القرآن الكريم والمتون الفقهية المتداولة ثم اتجه إلى النفس يزكيها ويستكمل فضائلها وعمد إلى الروح يطهرها ويرقيها في معارج السالكين، واختار لذلك صحبة مغذي الأرواح العارف بالله الشيخ التراد بن الشيخ العباس قدس الله روحه، فصحبه فترة من الزمن كان يلازمه فيها في مواسم معينة ويرجع إلى قومه في غيرها، وكان يعتزل الناس في أغلب أحواله ويستغرق في مناجاة بارئه فلا تراه إلا منشغلا بربه منصرفا عما سواه ، لسانه رطب بذكر الله لا يفتر عنه آناء الليل و أطراف النهار .
ثم تتابعت علامات كرامته وتلاحقت حتى أضحت جلية في كل أحواله، فأذن له الشيخ التراد في الرحيل وأمره بالمسير ناحية الغرب، فكانت محطته الأولى في موضع يدعى (لفده) حيث التف حوله كثير من الناس ينهلون من معينه اللدني.
ثم تابع مسيره غربا مسترشدا بنور الله حتى انتهى به المطاف في موضع بومديد، فاستخار الله وحط رحاله، فأقبل إليه الناس زرافات ووحدانا ذكورا وإناثا ، و بدأ في تأسيس تجربته الفريدة، و بومديد هو إسم لعين ماء قديمة تقع عند منحدر ربوة كبيرة حيث تعانق رمال آوكار المكف سفوح جبال تكانت على طرف امتداد وادي أكرج كسامه و من المفارقة أن هذه العين لم تكن تجود إلا بمد واحد من الماء و منه جاءت التسمية أبو مديد تصغير مد على سبيل الاستغراب و الاستنكار، و هنا تجلت كرامة الولي الصالح العارف بالله الشيخ محمد عبدالله بن آدّ قدس الله روحه الذي اختار هذا الموقع ليستقر فيه في بداية ثلاثينيات القرن الماضي ( القرن العشرين ) فأقام السد الكبير المشهور باسمه ( سد ولد آدّ ) و سدودا أخرى فاحتجز الماء مما أدى إلى ارتفاع منسوب المياه الجوفية و حفر العيون الكثيرة المبنية بالحجارة ( سبعا و عشرين عينا ) فتدفقت المياه غزيرة تروي الحقول و المزارع وواحات النخيل ( أنظر موريتانيا عبر العصور لإسلم بن محمد الهادي الجزء 2 صفحة 30) و ما تزال هذه الكرامة متجلية في الآبار الارتوازية التي تؤمن الماء الشروب بسخاء للأحياء السكنية على حافتي الوادي ( مركز المقاطعة الزيرة - الحضرة ).
وقد تكونت مجموعته من قسمين : أهل الأكوان وهم أرباب الأسر، والمتجردون وهم الذين تجردوا من كل حظوظ الدنيا ولبسوا مرقعة تأسيا بالفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه بينما لبست النساء ملحفة بيضاء.
وقد تجردوا من الدنيا للخدمة في سبيل الله تعالى احتسابا للأجر والمثوبة من عند الله وليس سخرة ولا خدمة للشيخ بل جهادا للنفس والشيطان في العمل المضني لإغاثة الملهوف وسد فاقة الجائع وإكرام الضيف وابن السبيل وصلة الرحم والإيثار والإحسان إلى اليتامى والفقراء والمساكين.
وقد سمع أحد المواريد قائلا يقول: اللهم لا تجعلني كرامة لولي، فرد عليه بل قل: اللهم لا تجعلني كرامة لعدو يقصد بالعدو النفس الأمارة بالسوء والشيطان الرجيم اللذَين يعبثان بقلوب وعقول كثير من أهل الحظوظ الدنيوية....
وقد أرسى الشيخ محمد عبد الله بن آد -قدس الله روحه- وجماعته في بومديد دعائم تجربة نموذجية في العمل الجماعي والإنفاق في سبيل الله كان فيها سابقا لعصره في كثير من المجالات، كما وصفها الأستاذ الخليل النحوي في كتابه القيم: بلاد شنقيط: المنارة والرباط، ص 518 .
وكان الشيخ محمد عبد الله بن آد قدس الله روحه، في مواريده كأحدهم يقاسمهم تقشفهم وزهدهم بل إنه كان أكثرهم زهدا ، وقد كان من أدبه معهم أن ينسب إليهم الممتلكات فيقول: حيوان التلاميد، وتجارة التلاميد، وجلابتهم ، وزراعتهم...
بل إنه كان ينزل مواريده المنزلة اللائقة بهم و لا غرو، فقد كانوا نجوما يهتدى بها و شموسا يستضاء بها، و كان يتخذ منهم سفراء و مبعوثين في مراسلاته مع الشيوخ والمشايخ و ينوبون عن بومديد في النشاطات السياسية الوطنية ( أنظر جريدة الشعب العدد 62 فاتح فبراير 1969 )، و قد صحب الشيخ من كل قوم خيارهم، بايعوه على السمع والطاعة لله وحده في المنشط والمكره وثبتوا على ذلك فاستحقوا بصدق الوصف الوارد في قول الله تعالى: { مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا } الأحزاب: 23 فجزاهم الله خير الجزاء وتقبل منهم، ورحم الله برحمته الواسعة موتاهم وثبت بالقول الثابت أحياءهم.
وقد خلد الشاعر الكبير والحقوقي الشهير الأستاذ محمدا ولد اشّدو الجماعة ومناقبها بقوله:
بعد خطفي ونفيي الرهيب
تلكم "الزيرة" كم بها قد تغنى
وهنا "الدفعة" في طلاب الأماني
و"التلاميد" يزرعون المعالي
يتلقون من ينيب إليهم
قيَّما سنها "ابن آد" بعزم
ها أنا اليوم في مكان عجيب
في الورى كل شاعر موهوب
وتباشير الانعتاق القريب
ويربون وجلات القلوب
من عباد الرحمن بالترحيب
ورعاها من بعد كل نجيب
وقد تعرض الشيخ محمد عبد الله بن آدَّ قدس الله روحه في بدايات ظهور كرامته إلى كثير من المضايقات والمؤامرات والدسائس لدى حكام المستعمر يتَّهمه أصحابها تارة بأنه مشعوذ ودجال وطورا بأنه مبتدع ومحتال، فكان في كل مرة يقلب الأمر على صاحبه ويخرج منه أكثر قوة وتمكينا، حتى اعترف له الجميع بما وهبه الله وسلموا له.
وفي مدة وجيزة أصبح الشيخ محمد عبد الله بن آدَّ، قدس الله روحه أحد أعيان البلد وأعلامه وبنى علاقات مودة وتحالف مع كثير من مشايخ وشيوخ البلاد في تلك الحقبة وتبادل معهم المراسلات في الاهتمامات المشتركة.
وكان يتمتع بعلاقة عادية مع حكام المستعمر (مدنيين وعسكريين) كغيره من الشيوخ والمشايخ تدور بحسب تجاذب المصالح فتارة مع هذا الحاكم وطورا ضد ذاك ، ولكنه في كل الاحوال كان صاحب اليد العليا بشهادة كل أهل تلك الحقبة واعتراف أحد الحكام الفرنسيين، أنظر:
Gabriel Ferral: Ma demeure Fut l’horizon (Tambour des Sables)
وقد شارك الشيخ مع غيره من أعيان البلد وزعمائه السياسيين في تأسيس حزب الاتحاد التقدمي الموريتاني في مدينة روصو 1948، ذلك الحزب الذي حمل مشعل السياسة المحلية في تلك الفترة مدة عشر سنوات. ليتحول بعد ذلك في مدينة ألاك عام 1958 إلى حزب التجمع الموريتاني ويبدأ في التحضير لاستقلال البلاد.
وأما في ميدان المقاومة فقد كان الشيخ محمد عبد الله بن آدَّ قدس الله روحه، أحد رموز المقاومة الثقافية إذ لم يسلم أيًا من أبنائه ولا أبناء أتباعه للدراسة في مدارس المستعمر، فقد كان يداري عنهم ويسجل له التاريخ من ضمن ما يسجله له من مواقف مشرفة موقفه في الدفاع عن بعض الشيوخ الذين اتهموا بحماية وإخفاء عناصر من المقاومة المسلحة (أهل الكدية) وبذله الغالي والنفيس حتى تحقق له إخلاء طرفهم وإعادة الاعتبار لهم.
وقد كان –قدس الله روحه- عنصرا فاعلا في كل الأحداث الاجتماعية والسياسية في تلك الحقبة، وقد حضر حفل رفع العلم في انواكشوط العاصمة الفتية للبلاد منتصف ليلة الثامن والعشرين من نوفمبر 1960، وكل الذين حضروا تلك الساعة المباركة يذكرون تهليله وتحميده وتكبيره لله رب العالمين.
ثم إنه لما اطمأن على مستقبل البلاد وقد صار يحكمها أبناؤها تاقت نفسه واشتاقت روحه إلى مجاورة الحبيب المصطفى عليه أزكى الصلاة وأتم السلام في المدينة المنورة وكان قد حج قبل ذلك مرتين ، فلم ترد الحكومة الفتية للدولة الوليدة أن تخسر حكمة وحنكة رجل مثل الشيخ محمد عبد الله ولد آد قدس الله روحه، فعارضت في بداية الأمر هجرته إلا أنها وافقت في النهاية بعد إلحاحه واستصدرت له وثائق السفر اللازمة، فهاجر رفقة الأسرة الكريمة الخاصة إلى الديار المقدسة وبقي الأهل والأتباع والممتلكات في الوطن وخلف عليهم ابنه الأكبر محمد فال الملقب "محفوظنا" رحمه الله.
وفي دار الهجرة تعرض الشيخ محمد عبد الله للامتحان الكبير في وطنيته عندما طلبت منه السلطات هناك أن يأخذ وثائق هوية أخرى هو وأسرته غير أنه رفض وتمسك بهويته الموريتانية فأرادوا إبعاده وأهله لولا تدخل أهل الفضل من كبراء الشناقطة آنذاك فتمت تسوية الوضعية وبقوا متمسكين بموريتانيتهم.
فلما تكاثرت ممتلكات الشيخ في تلك البلاد من العقارات والاستثمارات وخشي عليها الضياع، طلب وثائق الهوية السعودية التي منحت له عام 1977.
وبقي اهتمامه الكبير وهمته العالية لم ينصرفا يوما عن الوطن الأم فكان قدس الله روحه كثير الانشغال بقضايا موريتانيا الكبرى وهو في دار هجرته مثل الجفاف الماحق الذي داهم البلاد في مطلع السبعينيات من القرن الماضي وحرب الصحراء وما ترتب عليها من تغير في نظام الحكم فتبادل المراسلات مع أهل الشأن بواسطة خليفته في موريتانيا ابنه محمد سعدنا رحمه الله، مقدما الرأي والنصح السديدين، ويتحدث المقربون منه في تلك الفترة عما كان يلهج به لسانه الطاهر من دعاء وتضرع إلى الله العلي القدير أن يحفظ موريتانيا وأهلها ويجنبهم الفتن والشرور.
ولما انصرف بكليته عن الدنيا الدنية واستفرغ قلبه لمناجاة ربه في آخر أيامه، كانوا إذا أرادوا شد انتباهه لأمر من أمورهم الخاصة يذكرون أمامه اسم موريتانيا فينتبه إليهم ويقول: (ماذا جد عن موريتانيا؟) ويتضرع إلى الله داعيا باللهجة الحسانية: "يا رب مونتلك أهل موريتان".
وكما يبتلى الصالحون والأخيار ، فقد ابتلى الشيخ محمد عبد الله بن آدَّ قدس الله روحه، في الأهل والبدن فصبر واحتسب عند الله حتى أتاه اليقين، فلبى نداء ربه وفاضت روحه الزكية ليلة السابع والعشرين من رمضان عام 1404هـ (أغسطس1984) فاستقبلت جثمانه الشريف مقبرة البقيع الطاهر ، مقبرة الصحابة والتابعين بالمدينة المنورة، فرحمه الله رحمة واسعة وتقبل منه وجعل مثواه الفردوس الأعلى من الجنة مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. آمين
الأستاذ المفتش محمد المختار بن خدي الملقــب يربــى