يتتبع الشاعر الفلسطيني أحمد الخطيب في ديوانه الجديد ” جبل خافت في سِلال القرى” الصادر مؤخراً عن دار الجنان للنشر والتوزيع في عمان، أرخبيلات الحكاية الشعرية التي يصوغها على مساحة العمل الشعري، حكاية الإنسان الفلسطيني بشكل خاص، وحكاية الإنسان المنتمي لدوائر الحرية في تعقّبه للحياة الأجمل، تلك الحكاية التي امتدت على أكثر من بقعة جغرافية وفي سياقات حركة زمنية سريعة، التقط من خلالها بعض الصيغ الفكرية التي تمور في تصورات الإنسان في مواجهته للظلم.
يقع الديوان في 275 صفحة من القطع الوسط، وزيّن غلافه لوحة الفنان الليبي معتوق أبو راوي، تضمن قصيدة واحدة توزعت على إيقاعات بصرية وأزمنة وأمكنة متفرقة، فاختار لكل حكاية منطقة جغرافية بعينها، وشخوصاً لها إيقاعات بيّنة على حركة النص، فيما توفّرت لبعض الإضاءات جملة من التحركات الهامشية، ليثير الشاعر في مواجهتها رؤية المتلقي.
اشتغل الشاعر الخطيب في ديوانه على شخصية ابن شيبان، مع جملة من المقاربات في استقطاعات داعمة من الموروث الديني والأسطوري والتاريخي، مثل استدعاء قصة مريم العذراء وابنها، وملك قشتالة فيرناندو الثالث قائد معركة العقاب الذي احتل قرطبة عام 1236م، وميسون الكلبية، وغيرهم، الشخصية التي تقترب في ملامحها العامة من الواقع على إمكانية خلق أسطورة تقوم على منجزات إنسانية عالية القيمة منتشرة في كل مكان، حيث تبدأ الشخصية تحركها في الديوان الجديد من الزمن الفلسطيني المحفور على جذوع الأشجار الراسخة في الوطن، والمتعلق بالحلم في الشتات الفلسطيني، لتضع أقدامها في البقع الجغرافية المختلفة التي انتقاها الشاعر.
وتشكل سيرة ابن شيبان في رحلته إلى أرجاء المعمورة إيقاعاً جديداً في تجربة الشاعر الخطيب بعد عديد المجموعات الشعرية، ومنها: « أنثى الريح، مرايا الضرير، وما زلت أمشي، أحوال الكتابة، باتجاه قصيدة أخرى، حارس المعنى، كما أنت الآن كنت أنا، هذه سبلي وأيامي، وفي المتخيّل أتخيّل»، حيث يقدم بنية شعرية مصحوبة بعوالم سردية وتشخيصية وحكائية وقصصية، إلى جانب اشتغاله على رؤى بصرية عمل من خلالها على تجسيد الأشياء التي عاينها في سيرة ابن شيبان.
وزّع الشاعر قصيدته على محطات، شكلت المحطة الأولى، والتي جاءت تحت عنوان: « لهذا تباطأ قلبي عن السنديان» بداية الانطلاقة، انطلاقة ابن شيبان في رحلته الكونية، فحملت هذه المحطة العناوين التالية:» كلما جئت من زمن غامض، عزف على نوتة القلب، للماء حرز عتيق، كما لم يكن للغيوم غطاء من الزنزلخت، وتستجلبين البهاء من الحب، لك الله يا ناي، وهنا كان رأس الحقيقة يبكي».
فيما شكلت محطته الثانية قراءة للواقع الذي أجبره على الانطلاق، فحملت المحطة عنوانا رئيسا هو «ملاعبنا في الجوار لنركض عشرين ميلاً»، متضمنا العناوين الفرعية التالية:» الرصاص على بعد عمرين مني، جسدي لم يكن نائما، في الطريق إلى الفضة الذائبة، عييون نحن، للنساء اللواتي من الزهر ينبتن، أبحث عن زلة للمناخ، مبرأة بلدتي من عواء الذئاب، ويشبهه الأزرق الأبدي، وصلت أخيرا، وتسألني عن غدي، مجاز هو العمر في العالمين، لهذي الجموع، بلادي توازى على كمها في الجبال حفيدان، يمرّ المسيح، أريد من الناس صبرا جميلا، كأي نسق، ولماذا تحاصر نفسك».
وفي محطته الثالثة، ووسمها ب « ربما أجد الآن كوخا صغيرا لأمي» يضع الشاعر القارئ أمام عناوين متخيلة من مثل» ويمشي على الماء، وأحراشها غابة، وألفيت شيئا غريب الملامح، توارت على دكة الغسل زينب، كلؤلؤ هذا المزاج، أعير سطوحي حماما، لماذا تعيد الكلام عن الفعل في شهر آذار، وربطنا على قلب أحلامنا».
أما محطة رحلة ابن شيبان الرابعة فيقف فيها الشاعر على حكاية « دم مطمئن على أهله»، ليكشف للمتلقي عن خصوبة أرضه، فيقدم جملة من العناوين من مثل:» وأعرج لا للخروج على الناس، أتيت على سبخ الأرض حرا، سرورا يضج الندى، مراياي في واقع مبهم طارئ، ولي من حبال السفرجل، وصلت إلى بيت زينب، وابن شيبان خف عن الشيب، بناء القصيدة في الماء تحكمه الزوبعة، وأرجفت الأرض، لا بد من سرر، وليس له».
وحين يتخلى عنه الجميع يُسْقط في محطته الخامسة التي اختار لها عنواناً صادماً هو « واو الجماعة من سيرة المرحلة»، ليقف القارئ على عناوين مؤلمة من مثل:» وفي الأمر شيء معمّى، اعتكافي رهين يديها، ألم يئن للماء أن يتخير غيمي، كليمونة في حدائق غلبا، لعلك تمضي، فضاء من السرد، وأفقأ عين التراب، على متن هذي القصيدة، كذلك يصعق هذا البهاء خيالي، وملأت الخوابي وزيّنتها بالقماش من الهند».
وفي نهاية الديوان، في محطته الخامسة والأخيرة، يضعنا الشاعر أمام رؤية ابن شيبان لمسارات الرحلة، وما آلت إليه، وما اختزلته ذاكرة ابن شيبان من معطيات ظنها تساعد في تحقيق أحلامه التي ارتبطت بالأمل أن تنكشف عن الناس غمّة الضياع والرضوخ، إلا أنه وقف على خروقات كثيرة لإنسانية الإنسان، فحملت محطته الأخيرة عنوانا يشي بتمرد ابن شيبان على كل شيء، هو، « صبونا إلى شبر ماء، ولم نكترث»، وفيه التجأ ابن شيبان إلى إيمانه المطلق بإمكانية التغيير حتى لو ترك وحيداً في مواجهة هذا الشر، فجاءت العناوين لتؤكد على حتمية الانتصار، من مثل:» يهز ابن شيبان عين الرطب، صباحا تجيء الحمامات، أعينوا عليّ الكواكب، ومريم دهشة هذا المخاض، لتهلك أشياع روما، أعاق التحوّل ليلا سؤال الهوية، ولست رهين يدين ضبابيتين، لكم أن تثيبوا، أراقب هذا الشتات، وللخائفين مزاج قصير، الذي يفصل الآن بيني، وسيدة غاب عنها سؤال المرايا، ولم أعد ناطقا باسمه». من أجواء الديوان:» عيِّيون نحن، ولا مرضٌ في الأصابع، أو هزَّة في الجفونْ، عيِّيون أكثر، من نبتةٍ في الخريف، تُضارع أوراقها، ثمّ تأوي إلى الظلِّ، عمري قصيرٌ، وجسمي ضنينْ، عيِّيون فوق الرَّصيف، نُصارع هبَّةَ ريح، وشكل الرُّسوم على جدر شبهِ مائلة، ثمّ نقرأُ، هذا مسار الحصى، عيِّيونَ نحن هنالك في كلِّ أرض، وننسى_ على كلِّ حال_ تَصاهُر زوجين في الماء، قتل النبيين في ظاهر الأمر، رقصة سيزيف من ثورة في أعالي الجبالِ، ومِنجل هذا الحصاد الأخير، وموت الذكورة في النَّحل، بعد احتباس الحرارة في النَّحلة الماكرةْ!».