بهدوء وتواضع، يتبوأ المرحوم الطيب صالح ذروة سنام الإنجاز السوداني طُراً.
في هذا اليوم، 12 تموز/يوليو، الذي يصادف ذكرى ميلاده، ما زلنا – على المألوف فينا – مشغولين بتفاهاتنا، بينما تحتفي “غوغل” بذكرى ميلاد عبقري الرواية العربية.
في ذكرى ميلاد أعظم بني جلدتنا “التخينة”، ها نحن مشغولون، كالعادة، بأعظم شيء نجيده: كُره ذاتنا، وتربية أحقادنا، وتغذية صراعاتنا، وسيرنا الحثيث نحو الهاوية.
ها نحن نلوك الشماتة والشنآن، ونحتسي “فش الغبينة”؛
“ضبوب الأسافير” يكيلون الشتائم للجميع، ملثّمين بقلة الحياء والأدب.
كان الطيب صالح واحداً منا. كان من هؤلاء. ولكنه كان أبيض وجهاً، وأندى يداً، وأطهر قلباً، وأحسن ديناً، وأطول قامة، وأكبر منا جميعاً علامة.
كل واحد منا ينظر شزراً إلى الآخرين؛
أصابع الاتهام المرفوعة بعددنا جميعاً؛
لا يبرحُ كل واحد منا يؤدي دور المصلح؛
ويأبى هو أن ينصلح.
ساهم الطيب صالح في نشر أكثر الصور إيجابية عن السودان على الإطلاق حول العالم. وللأسف، معظم صورنا الأخرى إما صغيرة، وإما باهتة، ومعظهما قاتم، خاصة الصور المرتبطة بساستنا وقادتنا.
الأغبياء سيفهمون أنني أهاجم الحكومة وأهلها، وأستثنيهم هم.
صورنا النمطية هي وجوهنا المشوّهة بالكريمات؛ وسواعد شبابنا المشلولة، لا مرضاً ولا جوعاً، بل تأففاً واستنكافاً.
من أعمال الطيب صالح “ضو البيت” و”عرس الزين” و”مريود” و”دومة ود حامد” و”منسى” و”بندر شاه”، إضافة إلى روايته الأشهر “موسم الهجرة إلى الشمال” التي ترجمت إلى أكثر من عشرين لغة حول العالم.
ومن أعمالنا نحن “وساخة” عاصمتنا وجميع مدننا، وضياع جنوبنا، وأطفال المايقوما، وقشور تديننا، وعنصريتنا، ومأساة معلمتنا في مدرسة الثورة، وحكامنا الذين يشبهوننا، ويستحقوننا هُم، ونستحقهم نحن.
ولد الطيب صالح يوم 12 يوليو/تموز 1929، وحصل على جوائز عديدة وأطلق عليه لقب “عبقري الأدب العربي” واعتبرت الأكاديمية العربية في دمشق روايته “موسم الهجرة إلى الشمال” أفضل رواية عربية في القرن العشرين.
وجائزتنا نحن الفوز باللوتري الأمريكي، وعبور المتوسط إلى أوروبا – أمواتاً وأحياءً كالأموات – وعبور صحراء النقب، أذلةً صاغرين لدى الصهاينة، تاركين مليون ميل مكعب وراءنا.
للأسف لم ينجب السودان في مجال السياسة والقيادة إلا أقزاما، لكنه أنجب في مجال الرواية عملاقاً.
سيفهم الأغبياء أنني أهاجم الحكومة وأهلها، وأعفيهم هم.
لقد أنجب السودان أقزاماً أيضاً في الجد والعمل، وفي حب الوطن، وفي التواضع؛
تتضوّر مصارين الأقزام جوعاً للسلطة، والسمعة؛
حب السلطة والسمعة مثل حبنا الطفولي للسُكّر والحلاوة؛
وأنجب السودان أيضاً عمالقة في حب النفس، وتضخيم الذات؛
تتضوّر مصارين العمالقة جوعاً للسلطة، والسمعة؛
حب السلطة والسمعة مثل حبنا الطفولي للسُكّر والحلاوة؛
وأنجب السوادن أيضاً “الراعي الأمين” في اليوتيوب، الذي اقتسم معه أمانته وجائزته ملايينُ السودانيين. وباتت فلسفتنا: الراعي السوداني أمينٌ، إذن أنا “كمان” أمين.
“لا أبرياء في السودان”، عنوان بلا بكتاب.
في السودان – حيث تغوص جميع الأقدام في القذارة، وتجلل القذارة رؤوس الجميع – الأغبياء فقط يعتقدون أنهم أبرياء.
جاء حكيم من أقصى المدينة، فقال: الفقر يصنع المسغبة، والعري، لكنه لا يصنع الوسخ، ولا الخزي. ولا يمنع الأم والأب من أن ينجبا طيباً صالحاً.
من أراد أن يكون من هؤلاء كان. ومن أراد ألا يكون منهم لم يكن.
وأضاف: الوسخ إما أن تقبل به، أو لا تقبل به.
وأضاف: الحكومات لا تحجب رحمة الله إلا عن الأغبياء، الذين يعتبرون الحكومات آلهة.
اللهم ارحم الطيب صالح الذي غاب؛
فهو نجمنا الوحيد وسط انطفائنا.
اللهم لا ترزقنا طيباً صالحاً غيره،
بل اجعل كل واحد منا يصبح – بعمله وتغيير ما بنفسه – طيباً صالحاً.
آمين.
الريح عبد القادر محمد عثمان