تشكل الصحة العمومية للمواطنين أولى المهمات الأساسية للدولة، وفيما ترفض البلدان ذات التوجه الاشتراكي أي تنازل لحكوماتها عن الخدمات العمومية، وعلى رأسها قطاع الصحة، تفرض الدول ذات الأنظمة الليبرالية على المستثمرين الخصوصيين في مجال الصحة التقيد بنظم وقواعد صارمة من أهمها الخضوع للرقابة والمساءلة القانونية، مع احتفاظ القطاع العام بوجود قوي في ميدان الاستشفاء والطب، وبمستوى تنافسي يحرر دافعي الضرائب من إجبارية اللجوء للمصحات والعيادات التجارية.
ويشهد قطاع الاستشفاء في موريتانيا تدنيا ملحوظا على الصعيد العمومي وفوضوية كبيرة على مستوى العيادات الخصوصية التي تحولت إلى مجرد مؤسسات للتحصيل على حساب المرضى وذويهم، كما أن خزينة الدولة هي الأخرى محرومة من الاستفادة من أموال طائلة تذهب كلها إلى جيوب أصحاب هذه العيادات مقابل قطاع عمومي تحولت جل مستشفياته إلى محطات عبور نحو العالم الآخر..
يزيد عدد العيادات الطبية الخاصة على 400 عيادة في مختلف التخصصات الطبية بالعاصمة انواكشوط وحدها.. عيادات للأسنان، وأخرى للأمراض الصدرية، ونوع ثالث لأمراض النساء والتوليد، ورابع لأمراض الأنف والأذن والحنجرة، وخامس للعيون، وسادس لطب الأطفال.. ومصحات للأمراض الجلدية.. والقائمة تطول..
عدد كبير من العيادات الخصوصية فتحه أطباء عامون في أغلب الأحيان وأخصائيون نادرا، أو رجال أعمال لصالح أطباء مختصين بهدف التحصيل والثراء.. ذلك أن معدل رسوم الاستشارة الطبية لدى أي من العيادات الخاصة يبلغ 5000 أوقية، دون الفحص والعلاج والحجز الطبي..
ووفق استطلاع خاص فإن معدل الاستشارات الطبية يوميا يبلغ 50 استشارة لكل عيادة؛ وهو ما يعني دخلا يوميا لا يقل عن 250.000 أوقية، أي عائدا شهريا قدره ستة ملايين ونصف المليون من الأوقية على افتراض تقيد هذه العيادات بعطلة الأسبوع..
وتتضاعف أرقام عائدات المصحات الخاصة بحسب توفر بعضها على الفحوص والعلاجات والتدخلات الجراحية وغيرها..
وقد أدى تدني الخدمات الصحية في مركز الاستطباب الوطني ومحدودية وسائل مستشفى الشيخ زايد، والطبيعة الخاصة للمستشفى العسكري، إلى انحسار هامش المناورة أمام مرتادي المصالح الطبية وأصحاب الحالات المرضية التي تحتاج كشوفا وعلاجات أو عمليات جراحية؛ الأمر الذي فتح الباب على مصراعيه أمام أصحاب العيادات الخاصة لفرض أسعارهم وشروطهم.. حيث لا يجد المريض وذووه خيارا غير اللجوء إلى هذه العيادات أو إلى مستشفيات خارج الحدود، وهما خياران أحلاهما مر بالنظر إلى التكاليف الباهظة في كلتا الحالتين رغم الفارق الكبير في جودة الخدمات وكفاءة الأطباء..
المال.. والمال فقط
القائمون على العيادات الخاصة هم -في الأغلب- أطباء يعملون (رسميا على الأقل) في المستشفيات العمومية، أو في وظائف أخرى داخل قطاع الصحة.. وفيما يحصلون بانتظام على رواتبهم من الوظيفة العمومية -بغض النظر عن أدائهم أو حضورهم- فإنهم يتقاضون مرتبات ضخمة مقابل عملهم في عياداتهم الخاصة.. ومن هنا كان اندفاعهم في العمل في تلك العيادات ضمن العوامل التي أدت إلى انهيار الأداء الطبي في المؤسسات الاستشفائية الحكومية، وإلى غياب أية عناية بمرتادي تلك المؤسسات من المرضى والمصابين جراء الحوادث المختلفة مهما كانت خطورة حالاتهم..
يقول محمد سالم ولد إبراهيم العامل بإحدى الشركات المحلية إنه قدم إلى المستشفى الوطني بداية السنة الحالية بهدف علاج ابنته البالغة من العمر ست سنوات إثر وقوعها شبه مغشي عليها.. وإنه حين وصل لم يجد في استقباله غير بواب طلب منه انتظار مجيء الطبيب المداوم.. ويضيف: "كدنا نفقد صوابنا لأن حالة البنت سيئة.. وجاء طبيب فسألنا عن سبب الحالة فأجبته أننا لا نعرف ثم قال: انتظروني.. وعاد بعد نصف ساعة مرتديا زيا طبيا وأمر البواب بإدخال المريضة إلى غرفة العمليات لأنها تعاني من الزائدة الدودية حسب قوله".
ويروي ولد إبراهيم أن الطبيب عندما جاء لمباشرة عمليته لاحظ أن البنت نهضت والقيء يملأ المكان فاستدعى زميلا له وأخبره بالأمر؛ فما كان من هذا الأخير إلا أن أخرجها وفحص عينيها ثم قال: "إنها حالة تسمم إثر تناول طعام فاسد"..
حالة من الصعب إيجاد مبرر لها سوى الإهمال وغياب الاستعداد اللازم لدى بعض ممارسي مهنة الطب لمعرفة ماهية المرض قبل وصف الدواء أو تقرير العلاج..
في السياق ذاته، يمكن إدراج قضية السيدة التي توفيت جراء بقاء آلة حادة في أحشائها عقب عملية ولادة قيصرية بمستشفى الشيخ زايد العام الماضي..
أحد العاملين بمركز الاستطباب الوطني أوضح أن الدكاترة العاملين بهذه المؤسسة الوطنية الاستشفائية لديهم عيادات خاصة أو يعملون لحساب عيادات خاصة، وأن كلا منهم يترك عمله على الفور -مهما كان استعجاليا- داخل المستشفى ليلتحق بعيادته كلما طلب منه ذلك عبر الهاتف..
يقول مرافق أحد المرضى المحجوزين على أسرة المستشفى الوطني إنه لاحظ مشهدا أثار دهشته.. حيث ذكر أن حالة مستعجلة وصلت في وقت مبكر من صباح أحد الأيام، مما تطلب استدعاء أحد الجراحين الذي جاء بملابس عادية (دراعة) وبيده حقيبة ثم دخل إحدى الغرف وخرج منها بملابس العمليات ودخل غرفة العمليات التي خرج منها بعد مدة ونزع قفازه وقناعه ودخل نفس غرفة استبدال الملابس ليخرج منها سريعا وقد ارتدى دراعته وحمل حقيبته وغادر المستشفى..
مشهد أقرب ما يكون إلى مشهد عامل إصلاح الكهرباء أو الميكانيكي الذي يأتي لإطلاع عطب أو خلل ميكانيكي بسيارة أو بيت ثم يذهب بعد تسلم أجره وانتهاء مهمته..
وبعملية حسابية بسيطة يتبين أن متوسط الدخل الشهري لإحدى عيادات انواكشوط الخاصة تستقبل خمسين زائرا في اليوم ولا تمارس غير الاستشارات يصل إلى 6.500.000 (ستة ملايين وخمسمائة ألف أوقية) وهو ما يعني أن دخلها السنوي يصل في متوسطه إلى 78.000.000 أوقية (ثمانية وسبعين مليونا).
ومن ذلك يتبين أن عيادات انواكشوط الخاصة تستنزف كل عام من جيوب المرضى الموريتانيين وذويهم ما مجموعه 31.200.000.000 (واحد وثلاثون مليارا ومائتا مليون من الأوقية) وهو ما يعادل 14.311% من ميزانية الدولة للعام 2008.
أين الوازع.. وأين الدولة؟
لم تعد الانعكاسات السلبية لليبرالية الطب في موريتانيا موضع خلاف؛ فالكل يتحدث عنها بشكل معلن وصريح.. وتجاوزت الانعكاسات إهمال الأطباء وغياب القواعد الأساسية والمقومات الأولية للخدمة الصحية الضرورية؛ فعلاوة على تخلي الكثير من حملة رسالة الطب الشريفة عن مسؤولياتهم المهنية والأخلاقية اتجاه المرضى واتجاه وطنهم، وتحويلهم مهنة يوصف من يكرسون حياتهم لها بالرحمة وبأنهم ذوو لمسات ملائكية، يعمد هؤلاء إلى ممارسات أبعد ما تكون عن الرحمة أو الشفقة.. فالعديد من مرتادي العيادات الخاصة يشكون انتشار ظاهرة "الوصفات الموجهة" والتي هي عبارة عن وصفات طبية يكتبها هذا الطبيب أو ذاك ويطلب من مرافقي مريضه -أو زبونه على الأصح- شراء ما بها من صيدلية معينة على أساس أنها هي وحدها التي يوجد فيها الدواء الأصلي غير المزيف..
ويحرص كاتب الوصفة على أن تعرض عليه الأدوية المشتراة قبل الذهاب بها إلى منزل المريض؛ الأمر الذي يفسره بعض المترددين على المصحات والعيادات الخاصة بأنه تمالؤ بين الأطباء وأصحاب الصيدليات.. واللافت هنا أن هذه الظاهرة ليست حكرا على العيادات الخاصة وإنما باتت ممارسة معروفة في كل العيادات والمستشفيات والمستوصفات التابعة للدولة أيضا..
سلبيات ما يعرف عندنا بـ"الطب التجاري" لا تتوقف عند حد غلاء الاستشارات التي يصل مجموع ما تحصله عيادات انواكشوط الخاصة شهريا إلى مليارين وستمائة مليون أوقية؛ فضلا عن التكاليف الباهظة جدا للعلاجات والكشوف الطبية، كما لا تقف هذه السلبيات عند تجرد بعض أطبائنا من قواعد المهنية والأخلاق التي تفرضها رسالتهم الإنسانية النبيلة؛ بل تتجاوز ذلك إلى حد تحويل المؤسسات الاستشفائية التابعة للدولة -والتي تمتص مئات الملايين من الميزانية الوطنية لقطاع الصحة- إلى مجرد أجنحة فرعية لتلك العيادات التجارية، يستغلها أصحابها وأطباؤها في فحص وعلاج مرضاهم.. فمعظم الذين يأتون إلى العيادات الخاصة يجدون أنفسهم في اليوم الموالي داخل أروقة المستشفى الوطني؛ حيث يخضعهم الأطباء للفحص والعلاج هناك، بعد أن دفعوا لهم ثمن المعاينة في المصحات الخصوصية..
ولعل الاستثناء الوحيد هنا يبقى العيادات المتخصصة في الأسنان، وكذلك عيادات أخرى تعد على أصابع اليد الواحدة.
عملية التداخل بين العيادات الخاصة والعامة تتم بالتواطؤ مع بعض العاملين في القطاع الصحي العام ، من ممرضين وفنيين.. وحتى عمال بسطاء يتلخص دورهم في تسهيل إجراءات المرضى الذين ترد أسماؤهم على قائمة من أوصى بهم أطباء معينون يعملون في عيادات تجارية؛ ليبقى أغلب الباحثين عن علاج أو فحص أو معاينة -أيا كانت خطورة حالاتهم- تحت رحمة من لا رحمة عندهم..
وهو ما يضطر بعضهم إما للاستسلام للعيادات الخاصة، وإما لبدء مشوار آخر أكثر تعقيدا من أجل العلاج خارج البلد إن وفق في الحصول على مستلزمات ذلك المادية.. فيما يتحول الأمر لدى الآخرين إلى مأساة أشد وطأة.. إلا من رحم ربك.
والأدهى من كل ذلك أن الابتزاز والمتاجرة بأرواح الناس تتجاوز كونها مصدرا لثراء مجموعة من اللاهثين وراء الكسب المادي السريع وإشباع جشعهم وهوسهم في التحصيل، إلى القضاء على ما تبقى من بنى تحتية وتجهيزات طبية داخل المؤسسات الاستشفائية العمومية؛ خاصة وأن ما تجنيه العيادات الخاصة من مليارات سنويا، يأخذ طريقه نحو جيوب -وحسابات مصرفية- خاصة ومحدودة.. بعيدا عن روافد خزينة الدولة من رسوم وضرائب..
السفير؛ العدد: 616
الصادر بتاريخ: 2007