قامت الحرب ولم تقعد على ما يسمى "الإسلام السياسي" بدعوى "استغلاله الدين لأغراض سياسية"؛ وكلما تواجهت الأحزاب من اليمين واليسار في أي انتخابات، كان الاشتراط الأول هو تحييد "أماكن العبادة عن الحملات الانتخابية"؛ ولم تتوقف حملات التخويف من الخلط بين الدين والسياسة التي "يمارسها الإسلاميون حصرا"، حتى كاد هؤلاء أن يتنصلوا من مرجعيّتهم الدينية وصاروا، على الأقل "خطابيا"، أشد ديمقراطية من الديمقراطيين وعلمانية من العلمانيين وتفتحا من المتفتحين، وما نهضة تونس عنا ببعيد !!!
ولكن هؤلاء الخصوم "غير الجادين" في خصومتهم، لا يكادون يجدون في الدين مطية إلا ركبوها، ولا فرصة إلا اهتبلوها، ولا غَنِيمةً أو غُنَيْمةً إلا افترسوها، واعتبروا ذلك "توبة" و"عودة" إلى "المرجعية الدينية الوطنية"، ووجدوا من المطبّلين الإعلاميين من اعتبر ذلك دليلا على "التمسك بالتدين الوسطي والسمح" !!!
ولأن "الثكلى ليست كالمستأجرة"، يوقن هؤلاء "التائبون من العلمانية" و"الراجعون إلى الوسطية" و"المالكية" و"الصوفية" (وحتى "الكركرية" !!!) أن التباس سياستهم بالدين ليس فيه خطر التباس دين الإسلاميين بالسياسة، ببساطة لأن الالتباس الأول "تجاري، استثماري"، والثاني "اعتقادي، سلوكي" وشتان شتان...
رجع الإسلاميون إلى مرجعيتهم الدينية لتقوية الهوية في مواجهة الهجمة التغريبية الاستعمارية، ولإحياء منظومة حياة راشدة تحقق النمو المادي وتحافظ على الرصيد الروحي؛ وركب خصومهم "مرجعية الدين" بعدما لمسوا تجذّر الدين في الشعوب، رغم ليل الاستعمار وأذنابه؛ ركبوا المرجعية طمعا فيها لا خدمة لها، وسلّوا حرابهم الإعلامية ونصبوا محاريبهم الدينية ليستفردوا بالغنيمة التي طالما ضيّعوا، ويحتفلوا بالدّين الكريم الذي طالما هجروا.
ولأن بالمثال يتضح بعض المقصود، نورد هذه القصة دليلا على "الاستثمار الديني الجديد"، ومحاولة استخلاص خطاب الإسلام ورموزه من "دعاة الإسلام السياسي" ولو كلّف ذلك ذهاب أعناقٍ وأرزاق: أوردت قناة "الليل !!!" المحلية مقطع فيديو لأحد شيوخ الخليج قال فيهأنه سمع من فم أحد خطباء بلد الحرام وهو من نفس بلد فخامة الرئيس، أنه حضر يومًا في بلده ذاك حفلَ تكريمٍ لحفظة القرآن الكريم، وكان برعاية فخامته وفي حضوره، فقصّ الخطيب على الحاضرين "قصة" لأحد الشيوخ المحليين من محفّظي القرآن الكريم وفحواها أن الشيخ أتاه يوما طفل بعثت به أمه لحفظ القرآن عنده، فلما عرض عليه الأمر ذكر له أن التحفيظ بأجرةٍ محددةٍ لا يطيقها الطفلُ وأهلُه، فرجع منكسرًا، وفي الطريق الطويل إلى البيت نام تحت شجرة، فأتاه رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- وقال له: ارجع إلى الشيخ واطلب منه تحفيظك، فطلب الغلام أمارةً فقال له: بأمارة "زمرا زمرا"؛ رجع الغلام إلى الشيخ وأعاد عليه الطلب،وشفعه هذه المرة برؤياه وبالأمارة الدالة على صدقه"زمرا زمرا"، فلما سمع الشيخ القصة أكبّعلى الغلام مقبّلا ومقدّرا وقَبِل طلبَه بلا أجرة، ثم سأله الغلام عن سرّ الأمارة فأخبره بأنه رأى رسول الله في المنام فسأله: كيف يدخل المؤمنون الجنّة؟ فقال له:"زمرا زمرا، فلما سمع فخامته -يؤكد فضيلة الشيخ أنه رجل خيّر وأيّده المذيع وهو يشير إلى أن فخامته كان ضيفا على الحاكم الخليجيحينها- القصة قبّل رأس المكرَّمين وأعلن المسابقة سنويةً وبمقدارٍ مجزٍ للجائزة، فكبّر المذيع أمامه وكاد يذرف !!!
ومع رجاء أن أكون قد نقلت الخبر بتمامه، يهمّني أن أبرز في هذا البناء "الأسطوري" ما يلي: القصة ذاتُ طبقاتٍ في النّقل والعنعنة: فالراوي الأول فضيلة الشيخ والراوي الثاني خطيب البلد الحرام والثالث الشيخ مقرئ القرآن؛ أما في المحتوى فهي أيضا قصتان: قصة الشيخ المقرئ مع الغلام وقصة فخامته مع خطيب البلد الحرام؛ ولأننا لسنا بصدد الحديث عن قيمة الرؤى في تقرير المسالك والمعتقدات، فإن المقصد هو الاستثمار الواضح في بناء "أسطورة الحاكم": وللسائل أن يقول أين هو الاستثمار؟ وهل سمعنا فخامته روى مثل هذا لأحد من الناس؟ والجواب هو في الراوي الرابع الذي أخّرنا ذكره، وهو قناة "الليل" التي نقلت القصة –بتجرّدٍ لا مزيد عليه- من "سياق إعلاء قيمة تحفيظ القرآن والحظّ عليه" إلى "سياق تمجيد فخامته وسَوْقِ الدليل عليه"، وهو نقلٌ لم تقصّر القناة ولا مذيعتها في إظهار صورة فخامته مرافقةً للقصة المذاعةِ حتّى يتلقى المشاهدُ السياقين معًا، يعضُّد السياق الديني فيهما السياق السياسي، لتختتم المذيعة "الخبر الإعلامي الفريد" وهي تدعو أن يجعلها الله من أهل الجنة !!!
ولا شك أن أصحاب النوايا الحسنة قد ربطوا تماما -كما هو مطلوب !!!- بين السياقين واستجابوا للمونتاج الأسطوري واستخلصوا المشهد المطلوب والموجّه؛ وابتلعوا، عن طيب خاطر، الطعم اللذيذ؛ أما أصحاب النوايا السيئة -مثلي- فلم يستسيغوا اللّقمة "المركبة اصطناعيا"، وفصلوا تماما بين القصة التأسيسية ذات الأثر الروحي البليغوالقصة المتطفّلة التي تريد أن تتكئ على الأساس المذكور، وتسرق منه القيمة والأثر...وهيهات...
د. جمال حضري