السياسة التعليمية و التنموية العربية و شعار ثورة "الميجي"... | صحيفة السفير

السياسة التعليمية و التنموية العربية و شعار ثورة "الميجي"...

سبت, 09/09/2017 - 16:21

من يقول أن الأنظمة العربية قد فشلت في مجال السياسات التعليمية فهو مجانب للصواب ويحاول أن يخفي الشمس بغربال، ذلك أن مجهود أزيد من خمس عقود في مجال صياغة البرامج و النظم التعليمية، قد أعطى ثماره المرجوة و بشكل يدعو إلى الدهشة، و حجتي لإثبات هذه الفعالية  قد تبدو غريبة للوهلة الأولى، لكن –للأسف- هذه الأمثلة تختزل بوضوح مايريده الحاكم العربي -ومن وراءه الغرب- من المنظومة التعليمية العربية بشكل عام...

ألم يتم اقتحام و إغلاق المسجد الأقصى من قبل سلطات الاحتلال الصهيوني في الشهر الماضي، دون أي يرد فعل من الشعوب العربية؟ و لم تفتح أبوابه إلا بجهود الشعب الفلسطيني، الذي يعد بدون شك من الشعوب الحرة التي لازالت تمتلك إرادتها الحرة، لأنها لم تبتلى بعد بحاكم عربي مستبد، ولأنها من أفضل الشعوب العربية تعليما وتقارير الدولية تؤكد ذلك ؟ و قبل ذلك ألم تقم القوات الأمريكية بنزع عبارة "الله أكبر" من العلم العراقي تلك العبارة التي يسمعها  المسلمون ثلاثين مرة و ينطقون بها سبع عشرة مرة كل يوم و هم يؤدون صلواتهم ، فهل خرجت الشعوب العربية لتنديد بهذا الأمر؟ ألم يتم الانقلاب على إرادة الربيع العربي في الحرية والكرامة الإنسانية،والانقلاب على شرعية صناديق الاقتراع، و دعم الثورات المضادة بالمال و السلاح ، دون أن تبدي الشعوب العربية أي رد فعل ضد الظلم الذي مورس على أحرار الربيع العربي ، ذلك أن قسم عريض من هؤلاء الأحرار محسوب على التيار الإسلامي ؟

فانعدام رد الفعل إزاء إهانة المقدسات و تدنيس المعتقدات و انتهاك حرمات و أعراض المسلمين، من قبل العدو الداخلي و الخارجي، دليل قاطع على أن الأنظمة العربية نجحت في مهامها التعليمية و التربوية و الثقافية، فمن الصعب فهم النهايات دون الرجوع للبدايات ...و معظم السياسات التعليمية العربية تستند إلى نفس المبدأ العام،وهو تغيير هوية الأمة العربية و إبعادها عن  تاريخها و عقيدتها  الإسلامية..

ويتم هذا التغيير تحث عناوين براقة و غير مستفزة لريبة وشك عامة الناس، فالغرض هو تحديث المجتمع و تطويره و علمنته، لتحسين مستوى عيش المواطن العربي، وربط مخرجات التعليم باحتياجات سوق الشغل، وتأهيل المجتمع العربي لمسايرة ركب الحضارة الإنسانية، و تقليص الفجوة المعرفية بين الشعوب العربية والغرب... ما أجملها من شعارات لكنها تخفي بين ثناياها داءا فتاكا يفتك بالأمة ونهضتها... داء يقتل حصانة الأمة و يميع رسالتها، داء يجعل الأمة غثاء تتحرك دون هدف، شعارهاطلاسم إيليا أبو ماضي :

"جئت، لا أعلم من أين، ولكنّي أتي ..ولقد أبصرت قدّامي طريقا فمشيت...وسأبقى ماشيا إن شئت هذا أم أبيت كيف جئت؟ ...داء يجعل المجتمع العربي أداه للاستهلاك و الإنتاج مجتمع من العبيد لا مجتمع من الأحرار وهذا شعار السياسات التعليمية و التنموية في العالم العربي منذ عقود..

لست من الذين يتكلمون بعاطفية ، و لكن أدرك جيدا فحوى السياسات التعليمية المتبعة في العالم العربي ، فهي سياسات و ضع بنيتها المستعمر الاجنبي منذ أزيد من قرنين، و حاول جاهدا بطريقة مباشرة تغيير العقيدة في عقول أفراد الأمة بعدما عجز عن تغيير النصوص، و استمر في سياساته بعد الاستقلال عبر وكلاء ينتمون إلى الأمة، و من لونها ويدينون بدينها، حاول هؤلاء الوكلاء تغيير هوية الأمة بالاستعانةبالفكر الاشتراكي، و الشيوعي، و حين فشل المشروع الماركسي في بلاد المهد، تم العودة إلى الفكر الرأسمالي و الأمركة.. و ما إلى ذلك من شعارات لا يفهم مضمونها و لا يجلها ويقدسها إلا حكامنا العرب...

فهؤلاء الحكام ينافقون شعوبهم، و لايسعون لنهضة وتقدم شعوبهم، فلو كانوا فعلا يعملون بما يقولون لتحقق شيء إيجابي على الأرض،  فعلى الأقل سيكون هناك انجازفعلي و ملموس، سواء في الاقتصاد أو الطب أو الزراعة...لكن هل يبدو أي انجاز على أرض العرب؟ فما جدوى الشعارات المرفوعة منذ عقود؟. فالاقتصاد في معظم العالم العربي لازال يراوح مكانه، فمعدلات البطالة جد مرتفعة، و معدلات النمو الاقتصادي لاتؤيدها الوقائع على الأرض،و نسب التضخم في تزايد، وقيمة العملة الوطنية في تدهور، مما يدل على غياب الكفاءة الإنتاجية والفعالية الاقتصادية..

أما على المستوى العلمي و التعليمي فالطامة أكبر، و يكفي مثالا على فشل المنظومة العلمية والتعليمية، أن الحكام العرب و أسرهم و بطانتهم، لا يعالجون بأوطانهم بل وجهتم الأطقم الطبية في  فرنسا و انجلترا و أمريكا..بل إن تعليم أبنائهم و أحفادهم لا يتم إلا في بلاد الغرب، و بعضهم أصبح يتجه تدريجيا نحو كوريا الجنوبية وسنغافورة ... فأليس في ذلك شهادة دامغة مصدرها صناع السياسة، على فشل السياسات التعليمية العربية، وعدم فعاليتها في بناء الأمة وتحقيق نهضتها؟ 

أيها السادة النهضة طريقها مختلف، نعم من المؤكد أن التعليم و المعرفة محرك أساسي في النهضة، لكن عن أي تعليم و أي سياسة تعليمية نتكلم؟ فالمسألة ليست تقنية أو معادلة لوغاريتمية محايدة، فعندما نتكلم عن التعليم فالمسألة بالدرجة الأولى سياسية وأخلاقية/ قيمية إنها رؤية مجتمعية، و حتى لا يكون كلامي مجردا سأعطي مثالا عمليا لتجارب مرت من نفس المنعطف الذي لازالت الأمة العربية تعاني من تموجاته..

ففي اليابان قبل حوالي قرن ونصف سنة 1868 ، انطلقت ثورة "الميجي" و هي بالمناسبة جاءت مواكبة لإصلاحات دشنها حاكم مصر "محمد علي" في نفس الفترة تقريبا، والفكرة الأساسية المحركة للمبادرتين كانت هي الاستفادة من التقدم التقني و الحضاري الذي تحقق في أوروبا، فتم بعث خيرة شباب اليابان و مصر إلى العواصم الغربية لتلقي العلوم و العودة لأرض الوطن، لنشر المعارف الجديدة وتوطين المعرفة، لكن الوجهة اليابانية كانت مختلفة عن الوجهة المصرية ومن هنا اختلفت النتائج..

فبينما رفعت اليابان شعار "التقنية الغربية و الروح اليابانية" فضل رسل المعرفة من الشباب المصري من أمثال "قاسم أمين" و "رفعت الطهطاوي" و "طه حسين" و"توفيق الحكيم" الروح الغربية و حاولوا أن ينقلوها لأوطانهم لتحل محل الروح الإسلامية، و لم تستفد مصر من التقنية الغربية إلا القليل عكس ما حققه اليابانيين ...

فاليابانيون كانوا أكثر ذكاءا و احتياطا في التعامل مع مخرجات الحضارة الغربية، فهم اعترفوا بسيادتها تقنيا، و لكن حافظوا على انتمائهم الحضاري و الأخلاقي و القيمي، فالثقافة و الحضارة اليابانية ظلت سامقة في عقول القادة و صناع النهضة، بينما افتقدت مصر ومعها العالم العربي هذا الإحساس و أعطت لأوروبا و قيمها مكانة سامقة على حساب جلد الحضارة العربية والإسلامية ونبذ القيم الإسلامية،ففقدت الأمة بوصلتها و لم تحقق إنجازا يذكر، واستمرت الأمة العربية ككل في هذه الحلقة المفرغة، بينما أدركت اليابان وبعدها الشعوب الأسيوية المجاورة سر النهضة، فقلدت خطى اليابان في نهضتها، و حققت بالفعل نتائج نهضوية و تنموية جيدة، و القصة اليابانية تم إنتاجها مجددا في كوريا الجنوبية و سنغافورة و ماليزيا ، و الصين أيضا تبنت رسميا نفس السيناريو الياباني و حملت منذ 1978 تاريخ نهضتها الحالية، شعار "التقنية الغربية والروح الصينية"..

لأجل ذلك، فإن أي نهضة تحاول أن تخط طريقها بعيدا عن روح الأمة، لن يكتب لها النجاح و التوفيق، ورسالتي ليست للحكام فهؤلاء اختاروا الغرب بديلا، ونصبوا قيم الأمة وفي مقدمتها الإسلام عدوا، و اعتبروه عائقا في وجه التنمية والتقدم، متجاهلين حقيقة تاريخية لا جدال فيها، أن حضارة الإسلام و الحضارة العربية كان محرك نهضتها الإسلام، فقبل بعثة النبي العربي محمد عليه الصلاة السلام، كان العرب يرعون الإبل و بعد الإسلام أصبحوا رعاة للأمم ، و لا نهضة ولا مستقبل لهذه الأمة  بدون مصالحة مع مبادئ و قيم الإسلام ...و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون..

 

  د/ طارق ليساوي

*إعلامي و أكاديمي مغربي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي