منذ فترة غير بعيدة تشهد هذه البلاد جملة من الإحداث المتلاحقة التي توحي لمتتبعي المشهد السياسي عن وجود إرهاصات أو ملامح تأسيس لجمهورية ثالثة ، وبالتمعن والتمحيص لمراحل عمر الدولة الموريتانية وما شهدته من تجاذب لمفهوم الجمهورية لدى النخب أدى إلى دخول الدولة في فترة حكم استثنائي أمتد من الفترة يوليو 1978 إلى يوليو 1991 .
حيث بدأت مرحلة الانفتاح السياسي وأقر دستور 1991 والذي كان فاتحة لظهور الأحزاب السياسية وما رافق ذلك من تطور في الخطاب السياسي ، إلا أن الأمر لا يخلو من عوائق حيث ظهرت بعض المسلكيات المعيقة كان أبرزها : هيمنة الحزب الجمهوري على المشهد السياسي ( الحزب الحاكم ) وتغييب كافة الفرقاء السياسيين الآخرين ، وما صاحب ذلك من مصادرة للحريات مع نمو في الوعي المدني
ورغم أن كل الدساتير في العالم بما في ذلك دستوري موريتانيا 1961-1991 تنص على أن الشعب هو مصدر الشرعية إلا أن طريقة وضع واعتماد تلك القوانين الأساسية تناقض هذا المبدأ الدستوري المقدس ، فكانت صياغة تلك النصوص تتم خلف أبواب موصدة وفق مقاس السلطة الحاكمة قبل عرضها على الاستفتاء الشعبي في ظروف تفتقر غالبا للشفافية
هذه الإختلالات أفضت إلى انسداد سياسي غير مسبوق واحتقان سياسي حاد نجم عنه تغيير 03 أغشت 2005 الذي تعزز دوره بالحركة التصحيحية 2008 وما تبعها من تشاور وطني موسع توج باتفاق داكار الذي وقعت مسودته بقصر المؤتمرات بنواكشوط وبموجب هذا الاتفاق وضعت أجندة انتخابية واضحة تركزت أساسا حول مبدأ التناوب الديمقراطي عل السلطة وذلك بتحديد المأموريات واعتماد سنة الحوار بين أطراف المشهد السياسي .
وسعيا إلى معالجة الوضعية الآنفة الذكر عبر تجسيد مبدأ استمداد الشرعية من مصدرها (الشعب ) تنادت أغلب القوى السياسية وهيئات المجتمع المدني والفعاليات الشعبية في موريتانيا إلى حوار وطني شامل جاءت الدعوة إليه من أعلى هرم في السلطة ، تمخضت عنه جملة من الاقتراحات والآراء تتضمن إصلاحات دستورية أقرها الشعب في أستفتاء 5 أغشت 2017
وأبرز تلك الإصلاحات الدستورية إلغاء غرفة الشيوخ ودمج مؤسسات دستورية أخرى تتقاطع في مهامها ، وكذا إنشاء مجالس جهوية تنموية .
ويأتي إلغاء غرفة الشيوخ بناءا على التوصيات الواردة في مخرجات الحوار الأخير ، باعتبارها نوعا من الترف السياسي تم استنساخه من دساتير أمم أخرى فضلا عن كون الجمعية الوطنية التي ينتخب نوابها عبر الاقتراع العام المباشر
(عكس غرفة الشيوخ ) تضطلع بالدور التشريعي ذاته
وفي نفس السياق يندرج دمج بعض المؤسسات ذات الأدوار المكررة مثل محكمة العدل السامية والمجلس الإسلامي الأعلى ومؤسسة وسيط الجمهورية ، سبيلا إلى ترشيد موارد الأمة وتوجيهها نحو التنمية الاقتصادية والإحتماعية المستدامة ، ومن هنا تبرز أهمية استحداث المجالس الجهوية التي ستجسد اللامركزية في التسيير ومن الوارد أن توضع ضوابط قانونية تجدد صلاحياتها ومعايير مؤهلة للترشح لهذه المجالس التي ينحصر اختصاصها ضمن حيز جغرافي محدد ( الولايات ) كما يتعين وضع آليات فعالة لإشراك السكان المحليين في كامل مراحل إقامة تلك الهيئات بدءا بتحديد أولوياتها التنموية مرورا باختيار القائمين عليها وانتهاء بمراقبة أدائها
ومن هنا يمكننا أن نستبين ملامح واضحة لمعالم جمهورية ثالثة ذات مؤسسات دستورية وتشرك المواطن في التسيير عبر تجسيد اللامركزية وتعتمد مبدأ التشاور في اتخاذ القرارات المصيرية.