في 14 نوفمبر 1954 تخلص جمال عبد الناصر أقوى رجل بمجلس قيادة الثورة من محمد نجيب رئيس الجمهورية وأهم وأضعف رجل بالمجلس نفسه! وقبلها كان قد تخلص من خالد محيي الدين بالإضافة إلى يوسف صديق صاحب الدور الأبرز في نجاح الانقلاب العسكري الذي تحول إلى ثورة باركها الشعب المصري في 23 يونيو1952. وبعد أن انفصلت السودان عن مصر بعد إعلان الجمهورية السودانية في ديسمبر 1955 وإعلان استقلالها في يناير 1956 تخلص من صلاح سالم حيث إنه كان مختصّاً بالملف السوداني. وبعد نكسة يونيو 1967 تخلص من عبد الحكيم عامر ورفاقه ولم يبقَ معه تقريباً غير أنور السادات الذي نجح أن يسايره بمكره ودهائه المعروفين، وحسين الشافعي الذي تركهما فيما بعد ومكث في منزله.
الحقيقة أن مصر منذ عام 1956 بدأت عهداً من الخطابات التعبوية الفارغة والزعامات الوهمية غير الحقيقية والمشروعات الدعائية غير الاقتصادية كما وصفها الرئيس المصري الراحل محمد نجيب في مذكراته، وهو ما أصبح منهجا للحكم فيما بعد في أغلب البلدان العربية! حتى أنه توجد الكثير من الأحزاب التي تسمي نفسها ناصرية في هذه البلدان ومنها موريتانيا !
إلى أن أفاقت مصر في يونيو 1967 ليس فقط على هزيمة عسكرية بل انهيار اقتصادي وسياسي واجتماعي كبير وفساد لا حد له، ليقف عبد الناصر في أهم خطاباته في رأيي والوحيد الذي لم يكن تعبويا بل كان صادقا حقيقيا في نوفمبر 1967، ويحاول فيه شرح ملابسات الهزيمة الثقيلة والوضع الخطير الذي وجدت فيه البلاد نفسها. وقد قالها صراحة نعم كنت أعرف بوجود فساد ولكني لم أكن أتوقع أن يصل مداه إلى هذا الحد! ويعترف أن الدولة التي أنشأها تفتقر إلى الأجهزة الرقابية ويسأل: "ماذا كان علي أن أفعل هل أنشئ جهاز مخابرات فوق جهاز المخابرات الأساسي ليراقبه ويراقب الفساد؟. ولكن يظل السؤال من يراقب هذا الجهاز أيضاً تحسباً لفساده وانحرافه. فما الحل ؟!". ليجاوب هو بنفسه أنه لا حل سوى إقامة ديمقراطية حقيقية تراقب علي جميع أجهزة الدولة وتحميها من الانحراف والفساد .
وقد أستغرق الامر أكثر من عشرة أعوام ليعي عبد الناصر هذه الحقيقة بعد أن دفعت مصر الثمن غالياً وما زالت تدفع إلى الان لكي يعرف الزعيم عبد الناصر هذه الحقيقة!
وربما البعض يسأل لماذا لم يشرع عبد الناصر بعد أن تعلم الدرس باقامة ديمقراطية حقيقية في ثلاث سنوات حكمه التالية بعد النكسة؟ سوف تكون الاجابة أن عبد الناصر كان قد انتهي اكلينيكيا بعد النكسة كما قال الزعيم الراحل السادات في مذكراته" الجميع يعتقد أن عبد الناصر مات في سبتمبر 1970 ولكن الحقيقة أنه مات في يونيو 1967"
بالعودة إلى موريتانيا، هذا الدرس الذي أخذ الرئيس عبد الناصر أكثر من عشرة أعوام ليستوعبه لم يأخذ كل هذا الوقت ليفهم العقيد الراحل علي ولد محمد فال الدرس نفسه. فبعد أن أطاح بالرئيس ولد طايع في أغسطس 2005 بانقلاب عسكري ناجح وهو يضع نصب عينيه الديمقراطية والقضاء على الفساد. فخلال الفترة الانتقالية التي تولاها بنفسه لما يقارب السنتين شرع في اقامة دستور ديمقراطي. وقد فعل بشهادة كثير من الخبراء وأنشأ هيئة في غاية الأهمية وهي المفتشية العامة للدولة وأعاد النظر في كثير من ملفات الفساد وأعطى الحرية للاعلام الرسمي في محاسبة كل من تحوم الشكوك حول فساده ربما كل هذا لم يأتي بالنتائج المرجوة لأن الرجل كان مثاليا أكثر من اللازم وترك الحكم سريعا قبل حتي أن يكمل السنتين اللائي حددهما كفترة انتقالية. واكتفى بعشرين شهرا أعتقد أنه من خلالهم قد وضع وطنه علي الطريق الصحيح بعد انتخاب الرئيس سيدي ولد الشيخ عبدالله كأول رئيس مدني منتخب ربما في المنطقة العربية كلها وليس في موريتانيا وحسب.
لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن فكل هذا ذهب هباء بانقلاب أغسطس 2008 المشؤوم الذي لولاه لانطلقت موريتانيا إلى أبعد حد،نعم. ربما كانت هناك بعض الأخطاء من الرئيس السابق ولد الشيخ عبدالله ولكن هذا طبيعي كأي ديمقراطية ناشئة وكانت الديمقراطية سوف تنظم نفسها بنفسها في النهاية.
فدولة مثل موريتانيا لا يوجد بها أدني سبب يمنعها لأن تكون في مصاف الدول الأفريقية سوي الفساد الناتج عن غياب الديمقراطية والرقابة حيث توجد موريتانيا في قائمة أكثر الدول في أنتشار الفساد بها .
وهذا أمر واضح جدا ولا يحتاج حتى إلى خبراء أو محللين. فدولة مساحتها تتعدى المليون كم2 وبها ثروات معدنية لا بأس بها، وتقع على المحيط الأطلسي، ما يعني ذلك من سياحة وثروة سمكية مهولة بالاضافة إلى ثروة حيوانية تتعدي العشرين مليون رأس من مختلف انواع الماشية ولا يوجد بها تضخم سكاني ولها عديد من العلماء منتشرين حول العالم بأفكارهم وأبحاثهم ومع ذلك هي في مؤخرة القارة اقتصاديا!