تعيش الادارة الموريتانية في الوقت الراهن حالة استثنائية من الفساد المالي والإداري والتعليمي وحتي الأخلاقي المترابط ، لم يسبق له مثيل من قبل لا في النشأة المزعومة ولا حتي في الأنظمة العسكرية الغبية المتعاقبة ، ليشكل منظومة وثقافة متألقة تألقا واضحا في مراكز القرار و سائدا في الادارات دون ان يحرك ذلك ساكنا او يثير اي شعور أواهتمام .. وكأنه صار أمرا روتينا و عنصرا فاعلا ومكونا أساسيا من مكونات الادارة والتسيير وبالتالي يستحيل محاربته بطريقة فعلية غير التي تعتمدها الحكومة من فوق مسرح العار محملة بشعارات من اجل الاستهلاك المحلي وتبتعد كل البعد عن الجدية والنجاعة والتأثير .
إن مؤشر التحكم في الفساد الذي أطلقه البنك الدولي علي أكثر من مئتين دولة منذ التسعينات كان له مردودا إيجابيا واسعا حيث تقدمت تلك الدول والمجتمعات بكثير من النقاط في مؤشرها ولتحقق بذلك أعلي تقييم لقدرتها علي التحكم في الفساد ، لكنه يسقط سقوطا رهيبا أمام هذا النظام ويفقد هيبته و اولي خصوصياته كالمساءلة ، والاستقرار السياسي، وفاعلية الحكومة، وجودة الأنظمة، وتطبيق القانون ، وبذلك يبقي الفساد هذا السلاح الفتاك مستحوذا بقوة علىى ادارات الدولة العمومية .. وكانت السنوات الأخيرة 2014 , 2015 , 2016 ,2017 مثالا نموذجيا لإستنزاف خيرات البلاد وإستباحة ثرواتها من طرف عصابات النهب و جيش من المفسدين الجدد الذين وظفوا محسوبيتهم وزبونيتهم لغرس ثقافة الهدم والدمار لذا شكلوا احد اخطر الإشكالات التي يجب ان تطرح على الساحة السياسية اليوم و بقوة وان يطالها النقاش بجرأة كونهم وصلوا إلى درجة غير معقولة وغير مطروقة على الإطلاق ، فظهر ذلك جليا من خلال انتشار أشكال الانحراف واستغلال السلطة والزبونية والمحسوبية ، وقد ادي هذا الي إفلاس بعض المؤسسات مؤخرا والتي تدخل طي النسيان بمجرد ان يفتح القضاء أبواب التحقيق ، فيدفع آخرون الثمن كله بحجة القيادة والتسيير وآخرون من اصحاب المحسوبية لا تذكر حتي أسماءهم رغم أن الحقيقة ساطعة بجرمهم الكبير و وضوح قيادتهم لذلك الإفلاس القاتل ، فيسرحون و ينتشرون فيما بعد علي باقي المؤسسات كإنتشار النار في الهشيم .. وهكذا تستمر دائرتهم في الدوران علي هدم ما تبقي من خيرات البلاد بكل جرأة ووقاحة وعلي مرأي ومسمع من الجميع .. ولعل المفارقة الغريبة التي تدق أجراس الخطر هي أنه كلما تحدث الغوغائيون من الحكومة عن الفساد وعن محاربته إلا وارتقت مؤشراته بعيدا علي ايادي أولئك المفسدين كما ظهر ذلك جليا من خلال استطلاعات الرأي التي تقوم بها منظمة الشفافية الدولية ، وكما تشير إلى ذلك مجموعة من الأحداث والفضائح التي تظهر احيانا علي صفحات المواقع الوطنية والأحاديث المتداولة.. فهل يعني هذا اننا نعيش قحطا وجوعا داخل حلقة مفرغة من القوانين والتشريعات ؟
في الواقع المر وعلي السطح المكشوف يتقدم المشهد المالي غالبية من رجالات اعمال تخرجوا من شوارع الصدف والجهل المركب والفقر المدقع وقد نهبوا من أموال الشعب وأفلسوا المؤسسات جهارا نهارا مليارات الأوقيات .. عبر اعتماد أخبث عمليات المحسوبية والزبونية و احيانا النهب والسلب ! وهؤلاء هم أنفسهم الذين قادوا بعض القطاعات الحيوية الي الإفلاس والشلل الخطير ، يدعمهم في ذلك قيادات وإطارات في شتى مستويات هرم السلطة، ولأن تصنيفهم ينتمي مباشرة الي خانة الجهلاء معرفيا، وهذا الجرح النازف تسبب في تصاعد هذه الظاهرة الخطيرة في الآونة الأخيرة و في تعطيل عجلة الاقتصاد والإحساس بالاحتقان جراء ارتفاع الأسعار و الفقر والبطالة .... ذلك أن الفساد حالة فاسدة و تحاط بالكتمان والسرية، وعدم وجود طريقة فعالة لقياسه ومطاردته ، فغالبا ما يتم اللجوء إلى المواقع التي بدورها تتقاعس عن مهامها بسبب الارتزاق ، وشبكات التواصل الاجتماعي والتي غالبا ما تفتقد الي المصداقية ، أضف الي ذلك أن وجود بيئة سياسية واقتصادية وثقافية فاسدة تحول دون مكافحته فهي نفسها التي تطل علينا بين الفينة والأخري بشعارات و خطابات لا تعدوا كونها أنشودة خبيثة علي مسرح الكذب والنفاق يحاكي من فوقها المتملقون والمتشدقون بهذا النظام أهدافهم القذرة امام شعب متسامح .. ليصنعوا آليلات لا تدافع عن شيئ اكثر من فسادهم و شكلها لا يتوازي مع مضمونها مثل المفتشية العامة للدولة المكلفة بمكافحة الفساد والتي تتمالا تمالؤا واضحا معهم ، و ظهر ذلك على إرتباكاتها الواضحة في التعامل مع ملفات الفساد والتفريق بينهم بسبب النفوذ الذي يشكله المتهم وأحيانا مكامشة مافي الجيوب .. وهذا من الأعطاب الضاربة والفاضحة في تدني مستواها الرقابي علي المال العام ، كذلك عدم وجود قضاء مستقل في دائرة مكافحة الفساد .. كل ذلك ، ادي الي انهيار المبادئ الاساسية و الي استشراء الفساد وتغلغله بشكل بشع داخل أروقة الإدارات ، والحقيقة ان القضاء هنا ظل مجرد دمية تحركها في الدرجة الأولي أيادي الدولة ومن ثم تأتي المحسوبية والزبونية والرشوة مما ادي الي اختفاء وغياب المستثمرون الأجانب عن الساحة ، كما ظلت النصوص مجرد حبر علي ورق تمر من فوقها الفئران لتتلاعب بها القطط ... وهذا ما تؤكده الممارسات اليومية حيث تختفي من قائمة القضاء عجلة تحريك الدعاوي المتعلقة بالفساد وملاحقة المفسدين ، ولعل المؤسسات الأكثر فسادا هي التي يكون فيها دخل الدولة مهما وفي مقدمتها وزارتي المالية والتجهيز فواقع توسيع الوعاء الضريبي لم يغير لون المكان ولا حتي مفاتيح الأقفال ..فهي لاتزال تفتح بدونها ، كما أن احتكار الخدمات التي تقدمها هذه المؤسسات والتي تعتمد في تمريرمشاريعها و بإيعاز من جهات عليا في الدولة الي اشخاص لا تتوفر لديهم ادني صفات المعايير والتكوين العلمي ، وكان لذلك مردودا سلبيا أنهك كاهل المؤسسات وجعلها تحبوا وتقبع في بئر الدمار والإنهيار ، كما انه وضع الطبقة الوسطي في موقع الحيرة والتعجب و حول موظفي الدولة والمؤسسات العمومية الي أحد العناصر الفاعلة في شيوع الرشوة وتحويلها إلي مسميات أخري كالمكافأة والاستحقاق .
إن انتشار الفساد وتنامي صوره البشعة أبرز حالات التفكك والضياع التي تعتري مجتمعنا ليفقد ذاته و قيمته الإنسانية والأخلاقية، وليشكل تهديدا مباشرا لتحكيم القانون ، وهو ناتج في المرتبة الأولي عن الجهل و عدم احترام التشريعات وغياب المواطنة ، وهذا ما يجعنا نخطوا الي الوراء و لم نصل بعد إلى الوعي بمخاطر الفساد وأضراره علي المجتمع وما يشكل من دمار في سبيل نموه وتطوره ، وتبقي المسؤولية هنا تقع علي عاتق النظام و النخبة المثقفة المتوارية عن المشهد وغياب الاعلام المتيقظ الذي ظل بعيدا كل البعد عن الانخراط في النقد عموما و في محاربة الفساد خصوصا والذي يفرض إرادة حقيقية مبنية على نقد واضح شفاف وجريء .
من هنا تضح اسباب فساد صورة الإدارة وضوح الشمس في رابعة النهار ، فهي تخضع مرغومة و بوضوح في الدرجة الأولي إلى أوامر مبادئ طبقة الآثمة والتي تعمل جاهدة علي ان يصبح المحظور مباحا وتصبح المسميات معكوسة والمفاهيم مضطربة و العلاقات الإنسانية تحكمها سلطة المحسوبية التي خدمت الكثيرين والتي باتت تشكل عائقا للفصل بين الكفاءة وبين الذي هو نتاج الواسطة ، وحتى وإن كان هذا يمثل الفساد بعينه فإنه سيظل في عيون هؤلاء الرعاع إصلاحا منهجيا ، غير ان شمس الحقيقة لا يمكن حجبها بغربال علي أيادي تبني آمالا علي رمال ..!! فهناك إجماع -وليس شبه إجماع- على علو كعب الفساد وهو إجماع لم ينبع من فراغ ، لكنه من مواليد المشاهدات اليومية للمواطن الذي يحفظ كل الثقوب الخفية التي تسترها الواجهة اللامعة .. لهذا وذلك باتت الجماهير وحتي جماهير النظام في كل أنحاء هذه الأرض المصفوعة ..تضرب كفا على آخر، في محاولة للغوص داخل النفس وإخراج الآهات والحسرات ، فالذي ظلت جماهيره تتغنى به لسنوات ... استيقظت من نومها العميق وأحلام اليقظة تضرب أعناق تمجيدها أرضا على صب اللعنات علي تاريخها وحاضرها وربما مستقبلها ..
القاظى مولاي احمد