باع العشريني الموريتاني داود ولد اعمر بطاقته التعريفية (الهوية الوطنية) والتي تمنحه حق التصويت في الانتخابات المحلية المزمع إجراؤها منتصف العام الجاري بـ10 آلاف أوقية (ما يعادل 29 دولارا أميركيا)، لناشط سياسي في حملة الانتساب لحزب الاتحاد من أجل الجمهورية الحاكم والتي بدأت في 28 مارس/ آذار الماضي وانتهت في 11 إبريل/ نيسان الماضي، إذ سعى نشطاء سياسيون إلى شراء أكبر عدد ممكن من البطاقات للحصول على منصب في الحزب، وهو ما يمكن الحصول عليه عبر ضم خمسين شخصا بواسطة الناشط والذي تسجل لديه وحدة شعبية في الحزب.
وكلما زادت الوحدات التي يؤسسها يؤهله ذلك للترشح لمنصب أكبر، كما يقول ولد اعمر، والذي بدا خلال حديثه غير مقتنع ببرامج الأحزاب السياسية في البلاد، لكنه على الأقل حصل على مبلغ من المال سيمكنه من قضاء احتياجاته المعيشية لأيام، كما أوضح لـ"العربي الجديد".
ما ارتكبه ولد اعمر يعد مخالفة قانونية، كما أوضح الخبير القانوني بلال ولد الديك، صاحب مكتب للاستشارات القانونية والتمثيل القضائي، وتحديدا للمادة 110 من القانون الجنائي الموريتاني الصادر في يوليو/ تموز 1983 برقم 162 والتي تنص على "كل مواطن يبيع أو يشتري الأصوات بأي ثمن كان في الانتخابات، يعاقب بالحرمان من حقوق المواطن وكل الوظائف أو المهن لمدة خمس سنوات على الأقل، وعشر سنوات على الأكثر، ويعاقب كل من يبيع الأصوات ويشتريها فضلا عن ذلك بغرامة توازي ضعف قيمة الأشياء المقبوضة، أو المودعة بها"،
وقال لـ"العربي الجديد"، إن أي مواطن قام ببيع أو شراء البطاقات التعريفية الوطنية لغرض الانتساب لحزب سياسي معين، تدخل فعلته تحت طائلة المادة 110 من القانون الجنائي، لأن الغرض من الانتساب هو المشاركة في مؤتمر الحزب المبني على انتخاب الهيئات عبر القواعد الشعبية والفيدرالية، وغرض الحزب السياسي هو خوض الانتخابات، وبالتالي تدمر هذه التجارة الحياة السياسية.
ضغوط على رجال الأعمال
يتهم القيادي في المنتدى الوطني للديمقراطية والوحدة (أكبر ائتلاف معارض يضم عددا من الأحزاب الإسلامية واليسارية المعارضة في موريتانيا)، صالح ولد حننه، الحزب الحاكم بشراء البطاقات التعريفية الخاصة بالمواطنين ضمن فعاليات حملة الانتساب التي أطلقها أخيرا، قائلا لـ"العربي الجديد": لدينا قناعة في المعارضة بأنه جرى بيع بطاقات تعريفية وطنية لصالح نشطاء في الحزب الحاكم، كما تم الضغط على بعض رجال الأعمال لتوفير أموال لشراء البطاقات،
وتابع "توجد معلومات تفيد بأن أي شخص جاء بـ100 بطاقة تعريفية يحصل على مبلغ قدره 500 ألف أوقية (ما يعادل 1404.49 دولارات) بقيمة 5 آلاف أوقية للبطاقة الواحدة (ما يعادل 14.04 دولارا)"، وهو ما يؤكده القيادي في مجموعة الثمانية المعارضة في موريتانيا (تضم ثمانية أحزاب ناصرية وقومية واشتراكية معارضة في موريتانيا)، محمد ولد الدحان، والذي قال لـ"العربي الجديد"، إن أغلب نشطاء الحزب الحاكم هم من الموظفين والعمال في الدولة الذين لا سبيل لهم في الترقية أو التعيين، أو حتى الحفاظ على عملهم سوى إظهار الولاء لرئيس البلاد محمد ولد عبد العزيز المؤسس للحزب الحاكم، وذلك عبر المساهمة بفاعلية في حملة الانتساب، لتأسيس أكبر عدد من وحدات الانتساب من أجل التمكن من عضوية المؤتمر الوطني القادم للحزب الحاكم، أو نيل فرص الترشح للانتخابات التشريعية والبلدية المقبلة في البلاد منتصف العام الجاري،
لكن منسقة حملة الانتساب على مستوى مقاطعة الميناء الواقعة غرب العاصمة نواكشوط، ووزيرة الثقافة والصناعة التقليدية السابقة بموريتانيا، هندو بنت عينينا، تنفي هذا الاتهام بالقول: "الحزب الحاكم ليس لديه مال يمكنه من شراء البطاقات التعريفية".
نفي بنت عينينا يتناقض مع استعداد الناشط السياسي في الحزب الحاكم عبد الرحمن ولد أحمد لشراء بطاقات تعريفية بمبلغ 3 آلاف أوقية (ما يعادل 10 دولارات) للبطاقة الواحدة، مع التعهد بالمحافظة عليها حتى تنتهي الحملة، ثم إعادتها إلى أصحابها وفقا لاتصال هاتفي مسجل أجراه معه معد التحقيق، عرض خلاله رغبته في بيع بطاقات تعريفية. وسعى الحزب الحاكم من خلال حملة الانتساب إلى وضع قاعدة بيانات تحدد عدد المنتسبين للحزب الحاكم على المستوى الوطني، مع تسجيل بياناتهم الخاصة لتأسيس مرحلة جديدة من العمل في الساحة الموريتانية، بحسب بنت عينينا، وتعد حملة الانتساب الجديدة الثانية منذ تأسيس الحزب عام 2009، وتصف المعارضة الموريتانية انخراط ولد عبد العزيز في حزب الاتحاد من أجل الجمهورية الحاكم، ومشاركته في فعاليات له، بـ"الانتهاك الكبير للدستور"، والذي يمنع رئيس الجمهورية من أن يتقلد أي منصب قيادي في أي حزب سياسي، لكن الحزب الحاكم يقدم تفسيرا دستوريا يقوم على أن الدستور لا يمنع الرئيس من الانتساب إلى أي حزب يختاره، وخصص الحزب أكثر 70 مركزا لتسجيل المنتسبين في عموم التراب الوطني، وفقا لعضو اللجنة الوطنية لشباب الحزب الحاكم ماء لعينين ولد الشيخ.
استغلال فقر الموريتانيين
أثبت معد التحقيق عملية بيع للبطاقات التعريفية من خلال توثيق حالتين، الأولى في 29 مارس/ آذار الماضي، مع الناشطة بالحزب الحاكم آمنتو بنت المختار، التي اشترت 200 بطاقة بقيمة 5 آلاف أوقية للبطاقة الواحدة (ما يعادل 12.5 دولارا)، مع استمرارها في الحصول على المزيد من البطاقات من أجل مساعدة أخوها الأكبر، لأنه مهتم بتعزيز مكانته في الحزب الحاكم من خلال ضمان انتساب عدد كبير من الأسماء عن طريقه، كما تقول، مضيفة أن جل من التقت بهم في مقاطعة دار النعيم الواقعة شمال شرق العاصمة نواكشوط حيث تسكن، عبروا لها عن عدم فهمهم للأهمية أو الجدوى من وراء الانتساب للأحزاب السياسية، ما جعلها تقوم بترغيبهم بالمال، فيما وثق معد التحقيق الحالة الثانية في بلدية لكصر، وسط العاصمة نواكشوط، في 2 إبريل/ نيسان الجاري، أثناء عملية بيع بطاقة إباه الناجي ولد ادومو، وهو سائق سيارة أجرة، للناشط في حملة الانتساب سيدي ولد مصطفى، على مستوى البلدية، مقابل 5 آلاف أوقية.
الناشط الشبابي بحزب الاتحاد من أجل الجمهورية الحاكم في موريتانيا محمد الأمين ولد محمدن، لا ينكر حدوث شراء البطاقات التعريفية من أفراد في مناطق يفتقد بعض سكانها من البسطاء لنسبة الوعي بأهمية الفعل السياسي، مثل عدد من سكان أحياء شعبية في دار النعيم ومقاطعة عرفات الواقعة جنوب شرقي للعاصمة وأحياء شعبية في مقاطعة السبخة، غرب نواكشوط، قائلا لـ"العربي الجديد": "التقيت 50 شخصا يسكنون قرب مستشفى التخصصات المعروف بـ(مستشفى جا) في مقاطعة السبخة، وهم يعرضون بطاقاتهم التعريفية طالبين مني أن أدفع لهم مقابل انتسابهم، لكن ذلك أزعجني كثيرا، وقلت لهم ما فائدة انتسابكم إذا لم يكن عن قناعة؟ لم أتعامل مع من يبيع ضميره".
ويعيش 71.3% من الموريتانيين بأقل من دولارين في اليوم، وفقا للتقرير السنوي الذي أصدرته منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) في العام 2015 حول حالة الأغذية والزراعة، والذي أوضح أن 23.5% من الموريتانيين يعيشون بأقل من 1.25 دولار يوميا، وهي أكثر المعدلات خطورة في منطقة شمال أفريقيا، وفقا للتقرير.
قبل الأوان
اكتفت أحزاب المعارضة بالتنديد بحملة الانتساب للحزب الحاكم المخالفة للقانون والقيام بحملات توعية على المستوى الشعبي ضد بيع ما سموه "بيع الضمير"، بحسب تعبير القيادي المعارض صالح ولد حننه، وهو ما قام به حزب تكتل القوى الديمقراطية المعارض في مدن نواكشوط ومدينتي نواذيبو، شمال موريتانيا، وأبي تلميت (150 كيلومترا إلى الشرق من نواكشوط)، حسبما قال القيادي في الحزب سليمان ولد محمد فال لـ"العربي الجديد"، مضيفا أن حزبه حذر من الانخراط في ما سماها الممارسات غير القانونية، كبيع بطاقات التعريف الوطنية خلال تحركاته في تلك المدن.
لكن الناشط السياسي الموريتاني محمد ولد الشيخ، انتقد المعارضة الموريتانية، كونها غائبة عن التأثير الفعلي على الأرض، مشيرا إلى أن حملة الانتساب التي جرت أخيرا ستكون الورقة الرابحة للحزب الحاكم، قائلا لـ"العربي الجديد": "الانتساب للحزب الحاكم هو تزوير قبل الأوان للانتخابات المقبلة"، فيما يرى أستاذ العلوم السياسية السابق في جامعة نواكشوط الحكومية ومدير مؤسسة رؤية للدراسات واستطلاعات الرأي (خاصة) الدكتور سليمان ولد الشيخ حمدي، أن عملية بيع وشراء البطاقات التعريفية تعبر عن عدم النضج السياسي للقاعدة السياسية والفاعلين عموما، وغياب الثوابت لدى الممارسين في المنظومة السياسية، كما تعود إلى فشل المعارضة الموريتانية في إيجاد بديل سياسي، وعدم تطوير النظام السياسي لأدوات التعاطي الجادة مع المنافسة، ما يوحي بغياب النضج السياسي والاعتماد على أساليب شكلية للحشد والتأثير، قائلا لـ"العربي الجديد": "الطبقة السياسية الحالية في موريتانيا، معارضة وموالاة، تفتقد لأي مشروع مقنع".