من يتابع نتائج المنتخبات العربية في مونديال "روسيا 2018 " يستغرب من توالي المصادفات والمفارقات، هزائم كان من الممكن أن تكون انتصارا مع قليل من الجد و التركيز، لا سيما لبلدان المغرب، مصر وتونس..، ومهما يكن تظل هزائم مشرفة، فجل اللاعبين العرب عبروا عن روح قتالية، وسعوا جاهدين لإدخال البهجة و السرور على قلوب شعوبهم، لكن الكرة كان لها رأي أخر،فبدورها اختارت تعميق جراح و مآسي و هزائم أوطاننا العربية ...
فالكرة في 2018 صنعت الحدث في العالم العربي بامتياز، فمن وراءها خرج المغاربة في الشارع و عبر وسائل الإعلام وسائط التواصل الاجتماعي، لتنديد بالتصويت الخليجي و العربي ضد "موركو 2026"، وذلك في سابقة تاريخية في العلاقات السياسية و الدبلوماسية، خاصة بين المغرب و السعودية، فالتصويت السياسي أفسد فرحة المغاربة،ومعهم باقي الشعوب العربية، التي رأت في الموقف الخليجي، خيانة للعروبة و الدين...
وعلى النقيض من ذلك، جاء التصويت الجزائري و المغاربي لصالح الملف المغربي بردا وسلاما على شعوب الإقليم، وبعث برسائل الأمل في مستقبل مغاربي أفضل، ولعل في ذلك فاتحة خير تقود لمصالحة جزائرية مغربية ، تتوج بإحياء حلم المغرب الكبير ، و لما لا نرى ترشح مشترك في 2030،لتنظيم المونديال يضم المغرب والجزائر وتونس، على غرار الملف الأمريكي الشمالي.. "فرب ذرة نافعة"، وصدق العلي القدير عندما قال : {..وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة : 216]...
أيضا كانت الكرة سياسية بامتياز، لأن الأنظمة العربية أثقلت كاهل الكرة ولاعبيها، فتم توظيف تأهل المنتخبات العربية كانتصار وفتح سياسي لهذه الأنظمة، كما تم توظيفها للتغطية على المظالم و النكسات و المآسي التي تعرفها بلدان الإقليم العربي من محيطه إلى خليجه، فليس بين " القنافد أملس"...وظفت الكرة للتغطية على التخاذل العربي في الانتصار والدود و الدفاع عن القدس خاصة و فلسطين عامة، فبدلا من اتخاذ مواقف صارمة ضد الإدارة الأمريكية ، وهذا الأرعن "ترامب" الذي اعترف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، و يحاول الترويج لصفقة العار،فبدلا من معاقبته و الحد من رعونته تجاه العرب و المسلمين، تتم مجازاته بالمال و الدعم السياسي من قبل السعودية و حلفاءها، ومن ذلك التصويت للملف الأمريكي المشترك 2026...
كما وظفت الكرة لتغطية على مسيرات العودة،و التقليل من أثرها فبدلا من نقل فعاليات هذه المسيرات و تفاعل باقي الشعوب العربية معها، يتم تضخيم الاهتمام بالمنتخبات المشاركة في المونديال ، فلسنا ضد تتبع أخبار المنتخباب واللاعبين، ولكن لكل مقام مقال و الضروري قبل الكمالي...
فأي نصر كروي لايمكن أن يعوض موت أو ظلم إنسان، فأي نصر كروي او مادي لن يعوض فقدان القدس،فأي نصر مهما كان لن يسعد قلوب أحرار العرب و المسلمين ،وهي ترى ما تفعل قوى التكالب العربي، في مدينة الحديدة وبالشعب اليمني الشقيق، و ما يفعل الكيان الصهيوني في شعب غزة المحاصر منذ 2003..
وظفت الكرة لتنسي الشعوب العربية مطالبها في الحرية و الكرامة و الدمقرطة، كما وظفت لتمرير العديد من القرارات الغير شعبية كرفع الأسعار في مصر ، ومحاولة كسر حملة المقاطعة الشعبية في المغرب..وماخفي أعظم...
إنها الكرة و صدق من وصفها "بأفيون الشعوب" أو "الساحرة المستديرة" وهي فعلا ساحرة و أداة في يد سحرة فراعنة العصر، ففراعنة هذا العصر من حكام مستبدين وطغاة متجبرين،نجحوا في توظيفها لتغطية على نهب ثروات شعوبهم،وظفوها لتغطية "سوءاتهم" و "عوراتهم"،فهم فشلوا في تحقيق التنمية و التقدم و الازدهار، فشلوا في جعل بلدانهم و أوطانهم تحتل موطأ قدم في سلم النهضة الاقتصادية، و التكنولوجية و العلمية..فشلوا في تحقيق انتصارات عسكرية على أعداء الأمة الحقيقيين و في مقدتمتهم العدو الصهيوني.. ولتغطية على كل ذلك ، أرادوا من الكرة أن تحقق ماعجزوا عن تحقيقه، بالعلم و الاجتهاد والإخلاص للدين و الوطن...
لكن الكرة كانت محايدة و رفضت خيانة الشعوب مجاملة للأنظمة ، فقد إنقلب السحر على الساحر، فالكرة كشفت أن الشعوب العربية واحدة، فحزنها واحد و فرحتها واحدة_وهو عكس ماتريد الأنظمة طبعا_، رأينا ذلك في متابعة الجماهير العربية لباقي المنتخبات العربية، فالعرب باختلاف بلدانهم يشجعون و يتعاطفون مع المنتخب المغربي،و المصري و التونسي..ولو انتصر أحد هذه المنتخبات لرأينا الفرحة و الاحتفال تعم شوارع الجزائر و غزة و عدن وغيرها من المدن العربية...
و على النقيض من ذلك، رأينا كيف كان موقف العديد من الشعوب العربية،وفي مقدمتهم الشعب السعودي، عندما خسر المنتخب السعودي، بل تم تشجيع المنتخب الروسي نكاية في ساسة السعودية، وليس كرها للاعبي هذا المنتخب..رأينا كيف تعاملت الجماهير العربية في روسيا مع المدعو "تركي آل الشيخ" و الهتفات التي تم ترديدها ومنها "السعودية خونة" ، ومن المؤكد أن الجماهير تدرك أن الخائن ليست الشعوب و إنما الأنظمة...
فقد تم تسييس الكرة خدمة للأنظمة الحاكمة،لكن لأن الكرة لاتعرف الخيانة، فهي رفضت أن تكون أداة لخداع الشعوب العربية، و صدها عن قضاياها المصيرية، فالكرة أدركت بأن التحدي الحقيقي الذي أمام الشعوب العربية، لن يتحقق بنصر كروي، و إنما بالانتصار على الاستبداد والأنظمة العميلة، بالانتصار على التخلف و الفقر، بالانتصار على الجهل و الأمية، و بالانتصار على الظلم و الجور..
فلاتلوموا الكرة فإنها كانت صادقة وانتصرت للعرب و تحدياتهم، ولسان حالها "غيروا أنفسكم ومن بعد ستأتي انتصاراتكم تباعا" ..وفي ذلك تذكير بقوله تعالى : {... إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} [الرعد : 11]..والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون...
إعلامي و أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق..