لقد تم اكتشاف العجلة منذ آلاف السنين قبل ميلاد المسيح عليه السلام، وأحدث اكتشافها ثورة كبرى قربت المسافات، وسهلت التواصل بين الشعوب وضاعفت من إنتاجها وزادت من حجم المبادلات بينها.
لكننا في هذا المنكب البرزخي لم نشعر بهذا الاكتشاف ولم نستفد منه إلا متأخرين جدا، بعد أن دهمتنا عجلات المستعمر في مستهل القرن العشرين أو بعد ذلك بسنين.
وكما أضعنا كل هذا الوقت دون الاستفادة من هذه الاكتشافات المبكرة، نخشى كذلك أن نضيع وقتا أطول منه دون الاهتداء إلى بلورة تصور عن طبيعة ومواصفات الاختيار الأمثل لمن سنوكل إليهم ولاية أمرنا ونسند إليهم تسيير شؤننا العامة، مع أن الفكر السياسي طرق كل هذه الإشكاليات بنظريات عاصرت اكتشاف العجلة أو أعقبتها بأمد ليس بالطويل.
ففي إحدى مسرحيات أفلاطون يلفت الفيلسوف الإغريقي عنايتنا إلى أهمية "رجل الدولة" نظرا لما يتسم به من خصال ومعرفة خاصة تخوله لأن يكون مؤهلا أكثر من غيره من بين رجال السياسة الآخرين لتولى الحكم وإدارة شؤونه.
والحقيقة أن مسرحية أفلاطون هذه لم تكن سوى تعبير عن إحباط الشعوب الإغريقية من أداء بعض السياسيين ونكوصهم عن وعودهم. وهو إحباط ظل في تصاعد مستمر منذ عهد الإغريق إلى يوم الناس هذا.
وبما أن الثقة في السياسة هي مفتاح التقدم والاستقرار الديمقراطي، فقد تم العمل على ترسيخ نموذج رجل الدولة لاستعادة الثقة المفقودة في السياسيين والتي يدور مناطها حول مطابقة الأفعال بالوعود وتغليب المصلحة العامة على ما سواها.
فمن هو رجل الدولة وماهي مواصفاته؟ وكيف نميزه عن بقية السياسيين؟
في إحدى مقالاته يورد الكاتب العراقي خالد القشطيني حوارا دار بين رئيس الجمهورية الفرنسية رينيه كوتي وأحد وزرائه، يُعين على التمييز بين شخصية رجل الدولة ورجل السياسة. ففي معرض هذا الحوار، ذكر الوزير للرئيس اسم زعيم بارز من زعماء الحياة السياسية في فرنسا. فاستخف الرئيس كوتي به وقال: «آه! إنه ليس سوى رجل عادي بسيط من رجال السياسة». فسأله أحد الحاضرين: ولكن يا حضرة الرئيس ما الفرق بين السياسي ورجل الدولة في رأيك؟ أجابه قائلاً: الفرق بسيط جداً. رجل الدولة يريد أن يعمل شيئاً من أجل بلاده. والرجل السياسي يريد من بلاده أن تفعل شيئاً من أجله.
وهذا المعنى هو الذي أكده جيمس فريمان كلارك في مقولته الشهيرة التي فرق فيها بين السياسي ورجل الدولة قائلا: "إن السياسي يفكر في الانتخابات المقبلة بينما يفكر رجل الدولة في الأجيال المقبلة"
فرجل الدولة يعتقد أنه ينتمي إلى الدولة وينحاز لقيمها ويدافع عن مصالحها، لكن السياسي يعتقد أن الدولة ملك له، يستخدمه لذاته ويدافع به عن مصالحه.
إن معرفة هذه الفروق بين رجل السياسة ورجل الدولة، تعتبر أحسن وصفة يمكن أن نتعاطاها كناخبين حتى نتغلب بها على تصوراتنا السلبية اتجاه السياسة، كما أن تعاطي هذه الوصفة سيكون ناجعا لمساعدتنا في استعادة الثقة بشأن قدرتنا على استخدام أصواتنا لانتخاب المرشح الذي نطمئن له، والذي تتجسد فيه سمات رجل الدولة، من معرفة وأخلاق، وتواضع، وأمانة، ومسؤولية، وخبرة تمكنه من أن يتجاوز بنا هذا المنعرج المفصلي دون تعريض دولتنا لمطبات أو عراقيل.
وفي هذا الإطار يجب التنبه إلى أن خطابات السياسيين نادرا ما تكون مطابقة لممارستهم ولما يخبؤونه وراء الكواليس.
فعندما ينطلق السياسيون في حملاتهم، تنطلق الكلمات من أفواههم مرتبة، والخطب مصممة بشكل جيد، بهدف إرضاء جميع الناخبين، وعدم إساءة معاملة أي أحد.
لذلك من الجيد التركيز على تصرفاتهم، فالأفعال وليس الكلمات هي التي تميز رجال الدولة.
وحتى لا يكون الحديث منفصلا عن الواقع اعتقد بعد سبر كل هذه المعايير-ودون التقليل من شأن باقي المرشحين-أن عدم وجود أية نغمة صدامية في جميع خطابات المرشح محمد ولد الغزواني هي سمة من أبرز سمات رجل الدولة.
كما أن تجربته وقدرته على التعامل الجيد مع المناخ السياسي على الصعيدين الوطني والدولي تعطيه ميزة تفضيلية على باقي منافسيه، تجعله المرشح الأصلح لقيادة المرحلة المقبلة.
وفي النهاية فإن التاريخ هو وحده الذي سيُنصف رجال الدولة، ويفرز أولئك الذين تمكنوا من التقيد الصارم بالقاعدة الذهبية: " خدمة البلد قبل خدمة الذات".