كما كان متوقعا، تداعت رئاسة لرغبة قيادة الأركان، وأعلنت عبر عبد القادر بن صالح رئيس الدولة بالنيابة، كما سبق وأشار إليه في خطاب سابق له الفريق أحمد قايد صالح عن موعد إجراء الانتخابات الرئاسية قبيل نهاية السنة الجارية وتحديدا في الثاني عشر من هذا الشهر، وبذلك تكون البلاد قد انتقلت في خضمها السياسي العسير الذي نجم عن التخريب العميق الذي أحدثه بوتفليقة في بُنى الدولة ومنظوماتها القانونية المؤسساتية طيلة عشريتين، إلى مرحلة أخرى من رهان القوة المفتوح بين النظام القديم والحراك الشباني الناشد للتغير على كل مستويات ممارسة المسئولية بالدولة، بما يتيح للمجتمع التحول إلى عصر جمهوري جديد يسود فيه الشعب وتكدر فيه نخب غصب الحق السياسي والسيادي وهذا مذ استقلت البلاد قبل أزيد من نصف قرن، في ظروف تصارعية بين ثنائيات عدة، عسكري/سياسي، نخب الداخل/ نخب الخارج، ضباط جيش التحرير الوطني / ضباط فرنسا المتلحقين بالثورة في الدقائق الأخيرة من عمر من الحرب التحريرية، خضم حُسم فيه بالآلية الخطأ وهو ما يفتعل ويتفاعل سلبا في اللحظة الجزائرية المأزومة حاليا.
لكن ثمة أسئلة كبرى تطرح نفسها حول إمكانية حصول ثم نجاح هذه الانتخابات من عدمها، كمثل، على سبيل الحصر فقط، هل يمكن إرضاء الارادة الثورية بالعملية الانتخابية؟ وكيف سيمضي الناخبون لاختيار وجوه لم يفرزها بعد المشهد الثوري الجديد المجدد، الذي طالب بالقطيعة من القديم فكرا وبشرا؟
اتضح الآن أن عملية الإطباق على الحراك التي تمت مباشرتها فورا بعد إفشال موعد الاقتراع الأول في الرابع من جويلية الفائت، وهذا من خلال تجفيف منابعه الخطابية باعتقال بعض رؤوسه أو ممن تحولوا إلى رموزه، كان ذلك بغرض التمهيد لفرض الاقتراع وفض الاستعصام بفكرة التغيير الثوري الشامل.
فالحراك الذي شمل في شعاراته المطلبية المكتوبة والملفوظة من الأول، بلزوم اقتلاع كل آثار القديم السياسي الرسمي منه والمعارض، مصرا على عدم استنساخ أي من التجارب الماضية وبضرورة استخراج طاقة جديدة من الأجيال النظيفة المتعلمة، أسهب عبر تجمعاته ومنتدياته في التنظير للواقع الثوري وآفاقه دونما سعي جاد للانتظام العضوي وإفراز نخب سياسية تستوحي من أفكاره من يمكنها من الانطراح كبديل للقديم وفرض التغيير على من يرفضه من الجهات الرسمية، وبالتالي يقف السؤال هنا مشروعا، هل أخطأ الحراكيون في رفض التحاق المعارضة الجادة التي كان يخنقها النظام سابقا فيعزز صفوفه بها ويمتح من خبرتها؟ وبالتالي يمكن القول أن موج الحراك العاتي كان بمده الجارف قد حرر أصدقائه وأعدائه على حد سواء من جبروت وخبث بوتفليقة ولكنه ولفرط عفويته وافتقاره إلى الرأس المدبر، استعلى معجبا بكثرته وتكاثره الضطرد في أسابيعه الأولى عن استغلال أصدقائه وها هو ذا يوجه لوحده مكر أعدائه المتسلحين بخبرة طويلة وغنية في المناورة والمناكفة السياسية.
لكن من جنها هي أيضا، لماذا عجزت الطبقة السياسية بأحزابها وشخصياتها المستقلة عن استيعاب خصوصية المنقلب الحراكي الذي قيل من اللأول أنه حرر كما أشرنا الكل، وتثاقلت في الحركة بالإيقاع الذي كان يلزم وتفرضه اللحظة الفارقة في التاريخ الوطني، ومن ثم انغمرت بكاملها تحت سيل الأحداث المتدفقة وصار لا يسمع لها صوتا ولا يرتقب لها اجتماعا، منذ الاجتماعات التي كان تعقد أيام كانت الكفة مائلة للشارع بشكل تام.
موقف عرّى بشكل واضح وفاضح مشكل المعارضة الجزائرية وسبب عضالها الطويل، وأنه لم يكن ينحصر فقط في قمع النظام الريعي وتحجيمه لها طوال انتكاسة التعددية الجدية الأولى 89/92 وإنما هو في بنية تفكيرها ومستويات وعيها ومقدرة قادتها على مواجهة إشكالاتها الذاتية، فكيف لها بالقدرة على مواجهة إشكالات السياسة الكبرى في البلاد الممتدة لعقود والمساهمة في صناعة خطاب وممارسة جديدين للمسئولية الوطنية.
فالعالم كله من الجزائر يسأل اليوم وهو يشاهد الحوار الساخن بين السلطة الفعلية وحراك الشارع عن الحلقة العضوية الوسط اي النخب السياسية الواصلة بين الطرفين، مثلما هو حال كل المجتمعات السياسية في العالم، لماذا لا تكاد هاته الطبقة تفوه بعد أن تبين في المواعيد الحاسمة مع التاريخ الوطني، بهذا البلد الكبير في كل الشيء إلا في محاولاته المتتالية لكسب تحديات التاريخ، بسبب فقدان الرجالات.
وعليه لا يفتأ الملاحظون يتساءلون كيف سيكون رد المعارضة الجادة الصامتة في مسرح المعركة على الأجندة الانتخابية للنظام؟ وهل ستميل إلى رفض الحراك أم إلى فرض النظام لها؟
وأخيرا وليس آخرا، كيف سيتعاطى النظام مع موعد انتخابي سطره هو في وقت يبدو فيه هو بذاته عاجزا عن “اختلاق” مشهد سياسي ومن ثم الشروع في فرض تطبيعه شعبيا كما كان الحال في التجربة التي تلت قتل التعددية الأولى، وقبلها عجزه عن تقديم مرشح يكون بمقدوره استمالة ولو نصف المكون الحراكي المسيطر على الشارع، على أمل أن يتم تضخيم ذلك المنسوب المتحصل عليه من الميل الشعبي من خلال التحكم في العملية الانتخابية ذاتها، وما يقوي من هذا الاحتمال هو التعيينات التي أعلنت مؤخرا على مستوى السلطة المستقلة للتنظيم والإشراف على الانتخابات حيث يرأسها بوتفليقي الاتجاه ووزير سابق للعدل في حكومة من حكومات بوتفليقة التي كان يرأسها المرشح المحتمل للرئاسيات القادمة الأستاذ علي بن فليس.
فالملاحظ إذن من خلال العملية الانتخابية التي لم تكن مطلقا نتاج عملية سياسية سليمة، وهو وحده مؤشر على احتمال فشلها أو على فشل ما ستفرزه فيما لو تمت وأجريت في موعدها – الملاحظ – أن كل الأطراف المعنية بالعملية، لم تتمكن من استكمال ضبط بيتها الداخلي والانتقال من جدال الأزمة إلى الحوار، ومع ذلك يصر النظام على المضي مباشرة من الجدال والسجال إلى الانتخاب بحسبان ذلك في منطقه، عملية ليست للنقاش ولا للتفاوض بشأن خصوصيتها كونها تأتي في سياق ثوري تجديدي، ولا لترتيباتها وتم الاكتفاء بمشاورات تولتها شخصيات من أطر النظام القديم، ما يؤكد رفض النظام لفكرة التغيير الثوري الذي يحمله الحراك كشعار، بل ورفضه للحراك كثورة سياسية عليه، بل كثورة على بعض سياساته وقد عالجها بفتح ملفات الفساد قضائيا !