سبق وأن تطرقنا في مقالات سابقة بداية العام، بعنوان 2019 وأفاق جديدة إلى عدة قضايا مغاربية ومحلية من بينها إشكالية التدخل الأجنبي على حدود المنطقة والساحل إضافة إلى إشكالية القضية الصحراوية وأهمية اتخاذ مواقف مستقلة وحلول تنبع من الداخل في إطار كتلة جيوسياسية مغاربية يعول على قيامها وانبعاثها الكثير من أبناء الإقليم، ثم تطرقنا إلى الجدال الدائر أنذاك حول إمكانية حدوث انفراجة في موضوع رئاسيات 2019 أملا في ألا يترشح الرئيس السابق لمأمورية ثالثة الشيء الذي حدث بفضل الله ومنه، فنجت موريتانيا من محنة كانت محدقة بها.
كما تطرقنا إلى الآمال المعقودة على الرئيس اللاحق لانتشال البلاد من الكبوة التي تجد نفسها فيها وضرورة إشعار الناس بوجود آمال عريضة في مستقبل تعم فيه مشاعر التفاؤل والطمأنينة بما هو قادم، انطلاقا من قول المولى عز وجل (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين) الآية 77 القصص، ومن الضرورة أن يستعين الرئيس الجديد بمستشارين من مختلف التخصصات التنموية لتوجيه دفة البلاد إلى البناء والإصلاح وأن يتبوأ العلماء مكانتهم في توجيه وشحذ الهمم إلى خيري الدنيا والآخرة.
اليوم وقد انقضى قرابة الشهرين على تقلد الرئيس الجديد منصبه. مع أن العادة أن مئة يوم هي ما تعارف الناس عليه لقتييم الأداء، غير أن لبلدنا أحكام تخصه.
والحقيقة أن الأمور بدأت تتكشف أكثر فأكثر للقاصي قبل الداني منذ الإعلان عن التشكيلة الحكومية التي لم تبق رمزا من رموز العهد السابق إلا واستدعته.
آخر الصيحات في موضة التعيينات الخارقة للتخمين هي تعيين وزير المالية السابق، المثير للجدل على رأس أكبر المؤسسات وأوزنها في الاقتصاد والأهمية، المدير العام للشركة الوطنية للصناعة والمناجم سنيم، وهذا المنصب يكاد يفوق في الأهمية رئاسة الحكومة.
إلى أين تذهب هذه التعيينات بالبلاد بالنظر لباكورتها. سؤال يطرح على كل لسان من كل ذي قريحة في السياسة أو في الاقتصاد أو في الحكم الرشيد أو في التقاليد والأعراف والعادات والأصول.
أشيع في الساعات الأولى قبيل التشكيلة الوزارية أنها حكومة كفاءات غير أن الأيام توالت سراعا وتباعا لتشهد بعكس ذلك.
قلة من الوزراء فقط هم من لديهم سابق صلة بالوزارات التي وضعوا على رأسها وكانت النتيجة أن التعيينات بمجملها وتفاصيلها كانت محبطة إلى أبعد الحدود وكأن الأسماء جاءت متقدمة على المؤهلات والحصيلة أن الولاء عاد ثانية على حساب الكفاءة، فمن للإصلاح !.
ما من مسؤول يتبوأ منصبا إلا وسمعته تسابق اسمه إن كان من أهل الخير تباشر الناس به، وإن كان غير ذلك سألوا الله أن يكفي البلاد والعباد شره.
ومهما تكن عند امرء من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلمي
“ألا أخبركم بمخيركم من شركم خيركم من يرجى خيره ويؤمن شره وشركم من لا يرجى خيره ولا يؤمن شره” حديث نبوي.
كان الجميع مجمعا أو يكاد أن الرئيس الجديد سيأتي بالجديد فإذا هو بعكس ذلك تماما.
كان الجميع يؤمل في الرئيس الجديد أن يغير من اتجاه البوصلة فإذا بالسفينة مرتهنة.
مؤلم أن تتحول الآمال في شأن هو قمة الشأن العام إلى سراب بقيعة بين عشية وضحاها. فمتى سيكون لمؤسسات استطلاع الرأي وسبر الأغوار نصيب في استكشاف توجهات الناس وتلمس آثار القرارات الحكومية على نفسياتهم ومشاعرهم ومدى ثقتهم بمن يحكمهم ومتى سيكون صاحب القرار حريصا على مراعاة تطلعات وطموحات شعبه.
الوزير أو المدير أو السفير يجب أن يكون مستقيما في خلقه أمينا في معاملاته وتعامله خيرا يحب الخير لجاره وبلده وأهله يسعى جهد طاقته لجلب المنفعة لبلده يحسب المسؤولية أمانة وليست غنيمة، وبالمجمل حتى يثبت كفاءته يجب أن يكون قائدا إداريا بمعنى الكلمة، صاحب مبادرة وإبداع، قدوة في السعي والتفاني في أداء الواجبات وسداد الحقوق.
سلامة القرار السياسي مرهون بمدى قبول جمهور الناس به وبمدى تماشيه مع المصلحة العامة، فكما أن عهد الانقلابات قد ولى أفما آن لعهد الشورى والتشاور أن يحل بالبلاد.
المديونية:
كانت أولى خطوات الحكومة الجديدة واللافتة هي اللجوء المبكر للاستدانة من البنوك المحلية لتسوية بعض المستحقات والإيفاء ببعض الالتزامات وكما أعلن.
بالمناسبة، ما يجب أن يعرفه الرئيس بخلاف الرأي السائد هو أن المديونية الخارجية خاصة مجلبة للتبعية واستنزاف الموارد ومصادرة السيادة على مهل، كما أنها رهن لمستقبل الأوطان ومقدراتها للأجنبي.
سئل رئيس الوزراء الماليزي المرموق مهاتير محمد عن أسباب نهضة ماليزيا فأجاب بقوله: “لم أفعل أكثر من كوني خالفت نصائح صندوق النقد الدولي الذي كان يسعى لإفقارنا وهدر مواردنا”. ذلك بأنه من المستحيل الجمع بين المديونية والاستقلال.
وقد أثبتت دراسة فرنسية أجريت بإيعاز من الرئيس الفرنسي افرانسوا ميتران بعد توليه منصب الرئاسة أن كل أفرنك فرنسي تقدمه فرنسا في شكل مساعدة للبلدان النامية نحصل مقابله على خمس فرانكات في شكل مبادلات. فمن يساعد من؟. فما بالك بالقروض بفوائد طائلة.
واهم من يصدق أن صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي أو منهم وراء فكرة إنشائهما قد ينتشلون بلدا ناميا أو فقيرا من أوضاعه الصعبة أو يخرجونه من الفقر إلى الرخاء.
أجريت دراسات في عدة أماكن من العالم أثبتت وجود علاقة مباشرة بين المساعدات المقدمة للبلدان النامية والمجاعة. فالمجاعة والعجز تزداد مع زيادة المساعدات. ولا أدل على ذلك من أن الأهالي في بلدنا موريتانيا أخذوا يعزفون عن فلاحة الأرض منذ بداية تدفق الإسعافات أي المساعدات الغذائية في الثمانينيات، لذا يتوجب على الولاة من باب النصيحة تنظيم حملات لزراعة الأرض قبيل وبعيد مواسم الأمطار بالتعاون مع الوزارات المعنية، لإعادة الأهالي إلى الجادة، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.
ثروة البلاد المهدورة
أحيانا يشعر المرء بالحيرة والغبن معا لحال بلد يحوي من كنوز الأرض ما يحسده عليه القريب والبعيد، ومع ذلك يتضور جل أهله مسغبة ويلهثون ظمأ ويتساقطون سقما وعلة في ظل الدولة الوطنية.
الصناديق السيادية: قد تؤسسها الدول للادخار لصالح الأجيال اللاحقة وقد تخصص كاحتياط في وجه الأزمات، وقد تخصص لتمويل المشاريع التنموية الكبرى، وقد تكون لهذا وذاك معا، مما يفيض من أموال وخيرات، وهناك شركات عالمية لإدارة واستثمار أموال هذه الصناديق.
لا يوجد لدى البلد صندوقا سياديا واحدا رغم مرور خمسة عشر عامة على بدء استغلال منجم تازيازت المصنف عالميا كأكبر منجم للذهب على وجه الأرض من حيث وفرة الإنتاج وحجم الاحتياط.
مقتضيات الشفافية والحكم الرشيد تستوجب إماطة اللثام عن صندوق الأسرار الخاص بهذا الموضوع.
ما هو حجم الانتاج اليومي من سبائك الذهب، وما حجم الانتاج السنوي، وكم أنتج المصنع منذ بدء الاستغلال، وما هو حجم الاحتياط الكلي بالأطنان، وما هي حصة موريتانيا من الانتاج، وماهي حصة المستثمر الأجنبي، وكم دفع للخزينة الموريتانية منذ بدء الإنتاج قبل خمسة عشر عاما، أم لم يدفع للخزينة شيء بالمرة، هل هناك من ودائع في صندوق سيادي لا نعلم عنه، وماهي المبالغ المودعة فيه، ومن يحق له التصرف فيها، وهل سحب منها شيء، وكم مقداره، أم لا توجد ودائع بالمرة، ماهو حجم العمالة الوطنية من مهندسين وخبراء وتقنيين وعمال أم أن هناك تحجيم للعمالة الوطنية لصالح العمالة الأجنبية لمزيد من حجب المعلومات والتغطية على النهب المنظم بشهادة القلة من العمالة الوطنية المنتظمة نادرا بسبب الطرد المتواصل لمجرد الشبهة. هل يوجد للطرف الموريتاني مفتشين ومراقبين على اطلاع بحجم المنتج أم أن الموضوع حكر على الأجنبي ولا يحق للجانب الموريتاني الاطلاع عليه.
هل الانتاج يصل الطن يوميا أم هو أكثر أم هو أقل، علما بأن غرام الذهب يساوي خمسة وثلاثين دولارا أمريكيا للغرام الواحد.
هل تراعي الشركات المستغلة للمنجم الإجراءات الوقائية والشروط المعمول بها دوليا للمحافظة على البيئة من الملوثات والسموم الناتجة عن المعالجة الصناعية وهل السكان والعمال محميون فعلا وبما فيه الكفاية.
ماهو مؤكد هو أن هذا المنجم هو بمثابة أرامكو الموريتانية من حيث الأهمية الاقتصادية.
المعلومات عما يجري بداخله تكاد تكون معدومة وكأنه دولة في دولة، فالمؤشرات فقط هي الدالة على الاستنتاجات، وإذا كان البرلمان وهيئات المجتمع المدني المعنية بالشفافية وحماية البيئة غير معنيين بهذا الموضوع فما المبرر لوجودهم أصلا.
إعادة النظر في الاتفاقات السابقة والملاحق مع الشركتين الأجنبيتين المستغلتين للمنجم لمعرفة مدى تطابقها مع الأصول وقواعد الإنصاف مسألة غاية في الضرورة لحماية المصالح والحقوق الوطنية، وإذا لم تكن الدولة مساهما رئيسيا فلتكن بالمناصفة، وإذا كانت عاجزة عن ملء الفراغ فلتطرح الأسهم للبيع أمام المواطنين وأمام رأس المال الوطني، وإذا ثبتت مخالفات وخروقات صارخة بعد التحقيق قليكن التأميم.
لا يوجد لدى بلدنا صندوقا سياديا واحدا رغم مرور ستين عاما على استغلال أكبر ثروة سمكية في القارة وفي ظل الدولة الوطنية، أما الصناعة السمكية فلا تزال حلما من الأحلام.
لا يوجد لدى بلدنا صندوقا سياديا واحدا رغم مرور ستين عاما على استغلال أكبر منجم للحديد في القارة وفي ظل الدولة الوطنية، أما مصانع الحديد والصلب فليست ضمن الخطط المنظورة.
لقد مضى على بلدنا ستون عاما منذ الاستقلال وإلى اليوم وهي تتكفف في كل نادي ومحفل وسوق القروض والهبات.
أما آن للستين العجاف أن تنقضي وأن يوضع حد لنهب وهدر خيرات البلاد وأن ينعم أهل البلاد بخيرات أرضهم ولتكون لهم آيادي بيضاء على منهم دونهم في الخير من ذوي القرابة في الدم والدين والجيرة، عسى أن تكون شاهدا لهم في الدنيا والآخرة.
يتبع..
انواكشوط بتاريخ : 28 محرم 1441 هـــ
الموافق 27 سبتمبر 2019 م
بقلم: محمد لحبيب ولد معزوز
*ـ عقيد متقاعد
من مواليد مدينة أطار
المؤهلات العلمية:
باكلوريا وطنية
ليسانس حضارة وإعلام ـ المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية
بكالوريوس علوم عسكرية ـ جامعة مؤتة الأردنية
ماجستير علوم عسكرية وإدارية ـ جامعة مؤتة الأردنية
ماجستير علوم إستراتيجية ـ أكاديمية ناصر العسكرية العليا ـ مصر