شكل "خطاب الثاني مارس" 2019، منعطفا جديداً في الأدبيات السياسية الموريتانية، منذُ نعومة رمل هذه الأرض، وإلى اليوم التي يتوق فيه كل عضو في نادي النخبة السياسية الموريتانية إلى تمييز دوره إعمالاً لحروفه ولخطاه.
لقد التقيت بكثير من السياسيين الذين تمنوا أن يكونوا هم أصحاب ذلك الخطاب، الشديد الإيجاز، الكثيف المعنى، الدال بوضوحهِ الزجاجي على سماكة الكلمة السياسية حينَ تصدق في تلخيص أحوال وآمال أمة.
إنَّ بين الموريتانيين وبين "خطاب الثاني مارس" 2019، وقفة طويلة، فالخطاب لفت الانتباه، وأيقظ الذاكرة الوطنية إلى أنَّ عهدًا جديدا فيه يغثا الناس قد أطلَّ، تلك إشارة لم تخف من تابع ذلك الخطاب وقرأه لاحقاً بعين فاحصة تبحث عن الخطاب المرجعي للرجل الذي بدا بكل وضوح أنه خيار الشعب الموريتاني، وأنهُ بقليل من الكلام أضاء على خارطة أفعال هي تلك التي باشر فخامة الرئيس تنفيذها فور تسلمه مهامه إثر تداول ديمقراطي نموذجي على السلطة.
إن نجل المئذنة والمنارة والمنبر والمحظرة، أصبح أسرع سياسي في التاريخ الموريتاني يكسب ثقة شعبه في فترة قياسية لم تتجاوز الدقائق التي استغرقها في إلقاء خطابه الأول، "خطاب الثاني مارس" 2019، أو خطاب العهد كما بات يعرف بين الموريتانيين.
إنني أتذكر دلالات في هذا الخطاب، الذي أكاد أحفظه عن ظهر قلب، كلما رأيت بعض تفاصيل العمل الميداني المقام به ضمن التهيئة العام لإطلاق ورشات العمل الوطني الكبير، التي وعد الرئيس بتنفيذها ضمن مأموريته المباركة
أتذكر أن السلطات السابقة كانت تتحاشى المناطق التي تنطلق منها مطالب معينة. وكانت تلك المناطق تجرم باسم مطالب أو تهمش تبعا لحد وإلحاح تلك المطالب/ الملفات التي تعرفها هذه المنطقة أو تلك، من هذا الوطنِ الذي يعاني تنمويا.
الزمن تغير والمكان تابع للزمنِ في تغيره. والسياسة ذكاء ودهاء ومكر وليست لعبة ببساطةِ إلا عند من لا يفهمها.
إنَّ الوطن أهم من أن يبقى ضيعة مخصصة للبذور الذابلة، والقراءات الخاطئة، والتصرفات التي تجفف الجبين الذي لا يندى. ذلك عهد ولى، وهذا عهد فيه يغاث الناسُ.
لنأخذ نموذجين فقط، من القرارات الواعية.
فقد عانى الشمال الجميل من الظلام الدامس جراء النقص في الكهرباء، القطاع الاستراتيجي الذي يرتبط به مصير الصناعات الوطنية، فضلا عن الخدمية..
لقد تم اختيار أحد أبرز الأطر والعقول الإدارية الوطنية المنحدرة من الشمال لإدارة ملف الطاقة، وهو الدكتور محمد عالي ولد سيد محمد، فالرجل قامة علمية وله خبرة طويلة في مجال الطاقة بكل أشكالها، وله معرفة كبيرة بقطاع الكهرباء، وفضلا عن ذلك يتمتع بعلاقات واسعة على المستوى المحلي ، الوطني والخارجي.
والنموذج الثاني تمثل في تعيين المهندس سيد محمد ولد الطالب اعمر الملقب سلطان في منصب المدير العام لشركة الوطنية للمياه، وهذا الرجل شخصية وطنية بارزة، فهو وزير سابق وسفير في دول عظمى كالصين، وروسيا، والولايات المتحدة الأمريكية.
سلطان،مهندس دولة خريج الجامعات الروسية، معروف بالذكاء وحسن التسيير والصرامة، هذا فضلا عن كونهِ سياسي محنك له علاقات واسعة على المستوي المحلي ،الوطني ، والدولي، ومعروف أنه يحمل سجل حافل بالنجاحات فقد نجح في كل الوظائف والمهمات التي أسندت اليه فهو الرجل المناسب في المكان المناسب.
وليس هذا فقط، فنحن منذ اليوم الأول للتنصيب نجمع على أن كل التعيينات كانت موفقة، وتبدو كما لو كانت خضعت للدراسة وقتا طويلا.
لكن ما يهمنا أكثر هنا هو القول إنَّ رئيس الجمهورية يعي مشاكل السكان بتعيين أبناء المناطق التي تعاني من سوء الخدمات على ملفات تلك الخدمات ذاتها، فكما أسلفنا مثلا عين ابن الشمال على الكهرباء، وعين ابن الشرق على المياه، ولا تخفى الآثار الكارثية لمعاناة المنطقة الشرقية من العطش منذ عقود.
يشكل ملف المياه والكهرباء أولوية تنموية بالنسبة للأفراد والجماعات والقطاعات التنموية كلها، وباختيار أصحاب الكفاءات والتجربةِ والأطر الميدانيين نكون جد متفائلين إزاء نموذج جديد لإدارة الملفات الوطنية.