استنفرت بعض الدول العربية القوات الأمنية لمكافحة الغش في الامتحانات المدرسية والجامعية نتيجة تعدد أساليب الغش من توظيف لوسائل الحديثة في الغش إلى زراعة سماعات بالأذن وتقنية البلوتوث والقميص الذكي وتسريب أوراق الأسئلة عبر الجوال…
وتعددت الأسباب إلا أن المعضلة ليست في ظاهرة الغش بل تكمن في طريقة التعامل مع الظاهرة والتي تتكرر كل عام دون إيجاد حلول جذرية لاجتثاث المشكلة وتغيير الأنظمة العقابية والتعليمية التي جعلت من الاختبار غاية في حد ذاته واعتمدت عليه كمقياس لتمكن الطالب من المادة العلمية وليس إلى مجموعة من الأساليب التقيمية المختلفة لمعرفة المهارات التي اكتسبها .
ظاهرة الغش مجرد غيث من فيض يعكس الخلل في معايير بناء الإنسان العربي وهذا ما يقودني إلى الكتابة عن واقع الحضارة العربية المعاصرة وما قدمته للبشرية من معارف وعلوم وإسهامات وفي هذا المقام من الضروري التفرقة بين ما قدمه العرب كأفراد وبين ماقدمته المجتمعات العربية ، وعلى الرغم من تراجع ترتيب الدول العربية علميا وبحثيا واقتصاديا إلا أنهم ساهموا في تنمية الحضارة فقد شارك العرب بأربعة ملايين عالم هاجر من دياره كي يساهم في بناء الحضارة الإنسانية بعيدا عن الوطن ويقدر عدد العلماء المهاجرين المتخصصين في مجال الذرة والفضاء والطب والهندسة والرياضيات وغيرها من العلوم 50% من مجموع العلماء العرب وذلك ضمن موجات هجرة الأدمغة التي وجدت من المؤسسات الغربية مقرا لاستثمار قدراتهم العلمية ويعتقد أن الرقم الحالي أكثر بكثير عن الأرقام المسجلة ،كما انخفضت عدد براءات الاختراع العربية انعكاسا لتردي الأوضاع السياسية والاقتصادية في الكثير من الأقطار العربية فقد بلغ عددها 2900 براءة في عام 2015 وانحصرت أغلب الإنجازات المعاصرة على تبني مظاهر الحياة المدنية المستوردة من الدول الصناعية والمتقدمة فكان البناء شكليا وليس جوهريا وهذا ما يمكننا أن نقرأه بين سطور الإحصائيات الواقعية عن حال الإنسان في المجتمعات العربية التي تعاني من تحديات كثيرة فقد تبين أن هناك حلقة مفقوده في تسلسل بناء الإنسان أدت الى وقوع المجتمعات العربية في دوامة من الصراعات الفكرية والفلسفية والحضارية وما يتبعها من نتائج، ويتضح هذا التناقض جليا في الحياة اليومية التي تعتمد كل الاعتماد على ماقدمته لنا الحداثة الغربية من أنماط حياة ووسائل وأدوات لتحسين حياتنا أي إننا نعتمد على الابتكارات والإنجازات الغربية لكن في الوقت نفسه نرفض المبادىء العلمية والفكرية التي كانت وراء تلك المنجزات وهي التي تعتمد على التفكير المنطقي والتحليل وافتراض الفرضيات وقبول الآخر .. ويذهب البعض إلى أبعد من ذلك باعتبار كل علم حديث بعضا من الفساد.
وأشارت بعض الدراسات التي أجريت على محتوى المناهج في الدول العربية أنها لا تخلو من الأفكار المتزمتة ونفي الآخر ورفض الاختلاف ونبذ التعايش والتسامح ورفض النقد التحليلي والتفكير الاستقرائي ناهيك عن اعتمادها على التلقين.
كما أكدت نتائج الاحصائيات العلمية أن هناك ستة ملايين طفل عربي في سن التعليم لا يتعلمون وسبعين مليون مواطن عربي يعانون من أمية (القراءة والكتابة) بما يعادل ٢٧٪ من السكان ٦٠٪ منهم من النساء وأربعة ملايين مراهق خارج التعليم وستة ملايين من المراهقين لا يكملون التعليم الثانوي وعشرة مليون طفل يعملون وهم دون سن العمل وإن ١٠٠ دولار سنويا هو متوسط حصة المعلم العربي من التدريب والتأهيل و ٣٠٪ من الأطباء السورين هاجروا إلى ألمانيا نتيجة الصراع السياسي وتحتل مصر مركز الصدارة في تصدير العلماء الى الخارج. وهذا يؤكد على أن تغييرمفاهيم إعداد الإنسان العربي يعد مطلبا ملحا لتغيير المستقبل حيث يقاس تقدم الأمم بإسهاماتها في الحضارة الإنسانية والذي يتحقق ببناء الإنسان وإعداده الإعداد الجيد وذكرت بعض المصادر التاريخية أنه خلال المائة عام الاولى من بناء سور الصين تعرضت الصين إلى ثلاث غزوات دون أن يضطر الغازون تسلق السور بل اكتفوا برشوة الحارس الذي لم يتم إعداده معرفيا لحماية البلاد! هذه التجربة الإنسانية تكررت لمرات عديدة على مدى التاريخ فنهوض الحضارات أو فناْها كان بفعل الإنسان والحضارات التي استطاعت الصمود لفترات زمنية طويلة وظلت آثارها باقية حتى اليوم هي التي قدمت للبشرية كنوز معرفية وإنجازات حضارية خلدتها عبر الزمان .
إن قضية بناء الإنسان يستوجب تهيئة بناءه متمكين قادرين على إعداد الإنسان الواعي الذي يتحلى بالكرامة والإنسانية يمحو عنه الجمود الفكري ويساعده على استشراف المستقبل ومواكبة العولمة المعاصرة بوعي وعلم وإدراك، فأي مجتمع يحتاج الى المفكر المثقف والعالم المتخصص والإعلامي النزيه والمبدع الموهوب لذلك فانه من المهم أن يحظى إعداد الأم اهتمام المعنيين بالدول العربية وذلك بمراعاة احتياجاتها الانسانية والثقافية حتى وإن لم تخرج الى العمل وتمكين المعلم من إنسانيته والممتهن لمادته العلمية والقدوة الحسنه في سلوكياته والمتفرغ للناشئة غير ساخط من ظروفه المعيشية والوظيفية غير الملائمة هذا الواقع يستدعي إجراء دراسة تسهدف تغيير الاستراتجيات المعتمدة في بناء الانسان العربي الى استراتجيات تنهض (بالعلماء والمعلم والأم والحرفيين) فإن الاهتمام بهذه الفئات الأربع يعني بناء إنسان صالح ومنتج ومتحضر فقد أكدت الدراسات ان للمعلمين دورا محوريا في تشكيل وعي الطلبة في المراحل التعليمية المختلفة وهو ما يطلق عليه المنهج الخفي لذلك تضع الدول معايير صارمة في انتقاء المعلمين تراعى تفوقهم العلمي وخلوهم من العقد النفسية والاجتماعية.
إضافة الى ذلك تحتاج المجتمعات الى بناة مهرة وحرفيين من ابنائها ،ففي قصة نسبت الى محمد علي باشا انه عندما علم بانتشار المشردين في البلاد وتفاديا لازمة قد تؤدي الى سقوط الدولة امر بتجميع مشردين وكان عددهم 300 الف ليتلقوا تاهيلهم على ايدي افضل الحرفيين من فرنسا وانتقى النوابغ منهم لبناء مصر في ذلك الوقت وقام بارسال الباقي الى الدول الاخرى.
ان بناء الانسان يقوم على توظيف العقل واستثماره لذلك سعت الدول الكبرى الى تطوير العلوم وليس استيرادها تفعيلا لنتائج الدراسات التي اكدت على ان تطور الاقتصادي والسياسي يعتمد بنسبة 60%-80% على استثمار قدرات الانسان و20% على رأس المال المادي. فقد صنف المؤرخون القرن الواحد والعشرين على انها قرن العقول المبتكرة والايدي العاملة الماهرة
ان المسؤولية الملقاة على أكتاف بناة الانسان العربي كبيرة لأن المجتمعات العربية تواجه تراكمات ناتجة عن التشبث بالماضي التليد على حساب الحاضر والمستقبل فأصبح الانسان يعيش في صراع بين الماضي والحاضر ..وحتى تتمكن الدول من الاستمرار لعقود قادمة فإن إعداد الإنسان أولى من بناء الأسوار.
مرفت عبد العزيز العريمي/ كاتبة وباحثة عمانية