(بعد تفشي الوباء في الصين، وفي الوهلة الأولى وجه فخامة الرئيس الموريتاني السيد محمد ولد الشيخ الغزواني، ورئيس الجمعية الوطنية الموريتانية السيد الشيخ ولد بايه، وغيرهم من كبار المسؤولين الموريتانيين رسائل التضامن والتعاطف مع الصين، وقامت بعض منظمات المجتمع المدني، والموريتانيون أصدقاء الصين بتقديم تبرعات كريمة، بل إن بعضهم اتجه مباشرة إلى مقر السفارة للتعبير عن التضامن ودعم الصين في مواجهة الوباء، وهو ما يجسد المثل الشهير لدى الأمتين الصينية والعربية "الصديق وقت الضيق").
تلكم كانت فقرة من مقال متميز لسعادة السفير الصيني في بلادنا السيد "تشانغ جيانقوه"، المقال كان تحت عنوان: "الصين وموريتانيا يداً بيد في مكافحة الوباء"، وقد تم نشره في يومية الشعب بتاريخ 31 مارس 2020، كما أعيد نشره في العديد من المواقع الموريتانية.
لقد اختار السفير الصيني في بلادنا ـ وله كل الشكر على ذلك ـ أن يأتي بالمثل الشهير "الصديق وقت الضيق" خلال عرضه لبعض صور التضامن الموريتاني مع الصين. والتضامن الموريتاني مع الصين بدأ مع مبكرا مع ميلاد الدولة الموريتانية، فمن المعروف بأن الرئيس الراحل المختار ولد دداه رحمه الله، قد لعب دورا بارزا في استعادة الصين لعضويتها في الأمم المتحدة. فخلال فترة رئاسته الدورية لمنظمة الوحدة الإفريقية كان يحث القادة الأفارقة للتصويت لصالح استعادة الصين لعضويتها في الأمم المتحدة، وهو ما تحقق في يوم 25 أكتوبر1971، خلال التصويت على قرار الأمم المتحدة رقم (2785)، والذي نصَّ على استعادة جمهورية الصين الشعبية لمقعدها في الأمم المتحدة، والاعتراف بممثل حكومتها باعتباره الممثل الشرعي الوحيد للصين في الأمم المتحدة. وقد صوتت لصالح هذا القرار الأممي 76 دولة، أكثر من ثلثها من إفريقيا ( تحديدا 26 دولة إفريقية), وهو الشيء الذي جعل الرئيس الصيني الراحل "ماو تسي تونغ" يقول كلمته الشهيرة: "إن أصدقاءنا الأفارقة هم الذين أوصلونا إلى الأمم المتحدة". قبل التصويت على ذلك القرار بست سنوات، وتحديدا في يوم 19 يوليو 1965 أقامت موريتانيا والصين علاقات دبلوماسية، وبموجب ذلك تم قطع العلاقات مع تايوان التي كانت قد فتحت في فبراير 1961 أول سفارة في نواكشوط، وقد ظلت سفارتها لمدة أشهر هي السفارة الوحيدة في عاصمتنا الناشئة.
وبعد تفشي فيروس كورونا المستجد في الصين سارعت موريتانيا الرسمية والشعبية إلى التعبير عن تضامنها مع الصين، وهو ما تحدث عنه السفير في مقاله المتميز، وكان من بين المتضامنين مكتب رابطة خريجي الصين الموريتانيين، والذي قدم تبرعا لصالح "ووهان"، وقد قال السفير بأن ذلك التبرع يعدُّ أول تبرع تقدمه جمعية لصالح الصين.
تلكم كانت مجرد صور سريعة من الوجه المتعلق بالتضامن الموريتاني مع الصين، والآن لنأخذ صورا سريعة أخرى من الوجه الآخر المتعلق بالتضامن الصيني مع موريتانيا، وستؤكد لكم هذه الصور السريعة ـ وبما لا يدع مجالا للشك ـ بأن الصين هي بحق، دولة صديقة يمكن أن يُعتمد عليها، وبأنها لا تتخلف عن دعم أصدقائها في أوقات الضيق والأزمات.
يقول الرئيس الراحل المختار ولد داداه رحمه الله في الصفحة 617 من كتابه "موريتانيا على درب التحديات"، يقول عن الدعم الصيني لموريتانيا : " وكررتُ في أكثر من مناسبة، ولا سيما في خطاباتي عن حالة الأمة في 28 نفمبر، أنني لم أجد أي تعاون تمكن مقارنته بالتعاون الصيني، فهو تعاون مثالي من جميع الأوجه، سواء في حجمه ونوعية الفنيين المكلفين بتنفيذه من أطباء وخبراء زراعيين ومهندسين وغيرهم من الفنيين، فطريقة الصينيين في البذل والعطاء لا مثيل لها، فهم المانحون الوحيدون الذين تركوا لديَّ انطباعا بأنهم يتلقون ما يمنحون، فلا تباهي ولا غطرسة بل التواضع الشديد واللباقة الكبيرة، وعندما تتوجه إليهم بالشكر على سخائهم الكبير، يقولون لك باستمرار إنه لا شكر على واجب، وأنهم يأسفون على أنهم لا يستطيعون بذل المزيد، وأن بلدهم ما زال بلدا ناميا، فيا ليت كل المانحين عبر العالم حذوا حذو الصينيين.. "
نعم ...يا ليت كل المانحين عبر العالم حذوا حذو الصينيين..إنهم يقدمون الدعم بلا منِّ، وإنهم عندما يدعمون لا يضعون الشروط، ولا يتدخلون في الشؤون الداخلية للبلدان التي دعموها. وهذه نماذج سريعة من الدعم الصيني لموريتانيا.
الصين سقت نواكشوط لنصف قرن
في مداخلة للنائب السابق عبد الرحمن ولد المراكشي خلال جلسة علنية للجمعية الوطنية، بتاريخ 29 إبريل 2014، كانت مخصصة لمناقشة مشروع قانون قرض منحته الصين لبلادنا بقيمة 10 مليار أوقية قديمة على مدى 20 سنة وبدون فوائد، هذا إضافة إلى هبة مالية قدرها 7 مليار أوقية قديمة. في تلك المداخلة قال النائب السابق عبد الرحمن ولد المراكشي بأنه ما يزال يتذكر وهو شاب كيف كان هو ورفاقه في نواكشوط يكتبون على الجدران "الماء للجماهير"، وكان ذلك بعد أزمة عطش عرفتها العاصمة نواكشوط بسبب تعطل إحدى قطع الغيار في محطة لتصفية مياه البحر كانت تزود العاصمة بالماء في تلك الفترة، وكانت هذه المحطة تسيرها دولة صديقة تجنب النائب ذكرها بالاسم في مداخلته مع أنها معروفة للجميع، ولما طلب الرئيس الراحل المختار ولد داداه من سفير تلك الدولة الصديقة أن يجلب قطعة الغيار تلك، رد عليه السفير بأنه يفضل أن تُسير الحكومة الموريتانية المحطة، وأن تشتري له لاحقا قطع الغيار.
لم يكن من الرئيس المختار ولد داداه ـ حسب مداخلة النائب ولد المراكشي ـ إلا أن طلب من أحد وزرائه أن يتصل بالسفير الصيني في بلادنا، وأن يطرح عليه أزمة المياه في العاصمة نواكشوط، فرد السفير الصيني بأن الجواب سيكون جاهزا خلال فترة وجيزة. وبالفعل فقد حملت أول طائرة قادمة من الصين بعد ذلك اللقاء بعثة متخصصة في المياه، وبعد دراسة البدائل المتاحة لتوفير المياه، وقع الاختيار على بحيرة "أديني"، ولم تنتظر الصين أي اتفاقية قرض أو بروتوكول تعاون، وإنما بدأت بجلب المعدات والآليات، وتم حل مشكلة المياه في نواكشوط في ظرف سنتين. وفي بداية الثمانينيات قامت الصين بتوسيع هذه الشبكة لمضاعفة الإنتاج، وذلك حتى تستجيب للاحتياجات الجديدة من الماء، والتي فرضتها الزيادة الحاصلة في عدد سكان نواكشوط. هكذا ظل الدعم الصيني يتدفق ماءً زلالا ليروي عطش سكان العاصمة نواكشوط لنصف قرن من الزمن، وظل الأمر كذلك إلى أن بدأ مشروع "آفطوط الساحلي" في توفير الماء لسكان العاصمة نواكشوط.
الصين تدعمنا بثاني أكبر مشروع لها في إفريقيا
أدى الرئيس الراحل المختار ولد داداه أول زيارة رسمية للصين ( من20 إلى 23) أكتوبر من العام 1967، وخلال تلك الزيارة طرح على الحكومة الصينية تمويل مشروعين في البنية التحتية أساسيين لتنمية البلاد، وهما طريق الأمل وميناء نواكشوط، وذلك بعد أن تم رفض تمويلهما من الغرب، بحجة أن كلفتهما مرتفعة جدا. في زيارة الرئيس المختار الثانية للصين أكدت له الحكومة الصينية بأنها تلتزم بشكل نهائي بإنجاز ميناء نواكشوط، أما بالنسبة لطريق الأمل فيقول الرئيس المختار في مذكراته بأنه أخبر الحكومة الصينية بأنه لم يعد يطلب تمويلها، وذلك بعد أن تكفلت بعض الدول العربية بتمويل المشروع. ويعلق الرئيس المختار على ذلك بالقول بأن الصينيين قد ارتاحوا عندما أخبرهم بذلك، فهم من جهة لم يكن بإمكانهم تمويل هذين المشروعين المكلفين جدا، ومن جهة أخرى وبحكم صداقتهم، فقد كانوا يجدون حرجا بأن يصرحوا بذلك.
أنجزت الصين ميناء نواكشوط المستقل المعروف بميناء الصداقة، وقامت بتوسعته من بعد ذلك، ويعد هذا الميناء من أهم المرافق الاقتصادية في البلاد، كما أنه يعدُّ ثاني مشروع تنجزه الصين في إفريقيا، فهو يأتي في الرتبة الثانية بعد سكة الحديد في تنزانيا.
الصين تتذكر أصدقاءها الأفارقة في أوقات الضيق
كان من المظاهر اللافتة التي صاحبت جائحة كورونا أن الدول الكبرى انكفأت على نفسها، ولم تعد تهتم لا بالأشقاء ولا بالأصدقاء، وأصبح شعار كل دولة: نفسي..نفسي. ولم يتوقف الأمر عند ذلك الحد، بل أصبحنا نسمع وبشكل شبه يومي عن عمليات "قرصنة" قامت بها هذه الدولة أو تلك للاستيلاء على شحنة من الكمامات أو المعدات الطبية كانت في طريقها إلى دولة أخرى!
لم تعد أمريكا تخجل من الاستيلاء على شحنة من المعدات الطبية كانت في طريقها إلى فرنسا أو إلى ألمانيا، ولم تتردد التشيك في قرصنة شحنة كانت في طريقها إلى إيطاليا. ولم تتسامى فرنسا عن الاستيلاء على 4 مليون كمامة كانت في طريقها إلى إيطاليا واسبانيا. واشتكت كندا من وصول طلبية من الكمامات ناقصة واتهمت دولا أوروبية دون أن تسميها.
في وضعية كهذه نست دول الغرب إفريقيا، ولم تتذكرها رغم أنها كانت قد استعمرتها من قبل، ونهبت خيراتها، بل وأكثر من ذلك فقد شاهدنا طبيب إنعاش فرنسي على قناة إخبارية فرنسية يسأل : " هل بإمكاننا أن نقوم بهذه التجربة في إفريقيا حيث لا يوجد أقنعة طبية أو أسرة إنعاش، كما فعلنا من قبل في موجة السيدا....؟"
هذا عن دول الغرب أما بخصوص الصين التي أصبحت تطرح ومنذ سنوات مفهوم "مجتمع المستقبل المشترك للبشرية جمعاء"، فإنها قد التزمت بهذا المفهوم في مكافحة جائحة كورونا، ولذا فقد أعلنت عن تقديم معدات طبية للاتحاد الإفريقي، والاتحاد الأوروبي، ورابطة الآسيان، و89 دولة في العالم، وقد تم تسليم غالبية تلك المعدات للدول والمنظمات الدولية المستهدفة. وقد كان لإفريقيا نصيبها الهام من دعم الحكومة الصينية، هذا فضلا عن الدعم السخي الذي خصها به رجل الأعمال "جاك ما" مؤسس مجموعة علي بابا، وهو الدعم الذي تمثل في التبرع بمائة ألف كمامة، وألف بدلة حماية طبية، وألف قناع للوجه، و20 ألف كشف اختبار لكل دولة من دول إفريقيا البالغ عدد دولها 54 دولة، ولقد استلمنا في موريتانيا نصيبنا كاملا غير منقوص من هذا الدعم الصيني السخي. كما تم تسريع استكمال مشروع جناح الأمراض المعدية التابع للمستشفى الوطني، ومشروع صيانة مستشفى الصداقة، وبالفعل فقد اكتمل المشروعان، و تم تسليمهما لوزير الصحة في يوم 31 مارس 2020، وهو ما سيزيد من قدرات بلادنا في التصدي لفيروس كورونا المستجد.
ومن قبل أن أختم هذا المقال، فلا بد أن أشير في الأخير إلى أني كنتُ قد اقترحتُ في منشور سابق أن يتم الإعلان عن أوسمة رسمية وشعبية تمنح بعد انتصارنا بعون الله على فيروس كورونا المستجد لكل الشخصيات والهيئات التي بذلت جهودا متميزة في مجال التصدي لتفشي الفيروس في بلادنا، كلٌ في مجال تخصصه واهتمامه. وفي اعتقادي فإن سعادة السفير الصيني في بلادنا يستحق واحدا من تلك الأوسمة، وذلك لما بذل من جهد في هذا المجال، ولما قدمته بلاده من دعم سخي لمساعدتنا في التصدي للفيروس، ولما قدمته من قبل ذلك من دعم سخي تم عرض صور سريعة منه في هذا المقال، أو على الأصح، في كلمة الشكر هذه.
فشكرا للصين حكومة وشعبا..
دامت الصداقة الموريتانية الصينية المتميزة..
نعم لبذل المزيد من الجهود الرسمية والشعبية لتقوية العلاقات المتميزة بين موريتانيا والصين..