يبدو لي، والله أعلم، أن من دوافع الفساد الرئيسية: "عزّة شِي".. الناس عادت لا بُدَّ لها من شِي، أتوف ! شِي يَنْحاصْ، شِي ينْكلَعْ، شِي يَلْتَمْ، شِي يَرَتْفَدْ، شِي ينطرَح، شِي ينْدارْ القدّام، وشِي ينْدارْ اللوْرَه، شِي منقول، وشِي ماهُ منقول، وشِي تُكمّل بيه الشّخصيّة، إلخ،،، المهم هو الحصول على شِي ! بأي طريقة أو وسيلة؟ لا يَهُمْ ! وأصبحنا ننظر إلى الإنسان فقط من زاوية "الشِي".. نقولُ مثلا : فلانٌ معارض لأنُّ ما نعطالُ شِي، وفلان موالي لأنُّ اجْبَرْ شِي، وفلان أفَگراشْ حصّل شِي، وفلان اضعيّف ما حصّل شِي. وظاهِرة "عزّتْ شِي" هذه، تكون في الغالب متلازِمة مع ظاهرة أخرى، هي ظاهرة :"الخوف من شِي" أو "الخوف اعل شِي" ! مثلا الخوف من "الدّفْرَه" والخوف من الزَّمْگه، والخوف اعل الوظيفة، والخوف اعل الرّاتب، والخوف اعل القاعدة الشعبية، والخوف من كل شيِ إلاَّ من العقاب. وفي المحصّلة، يكون المجتمع السياسي كله موزّع بين ألِّ يبغِ شِي، و ألِّ خايَفْ من شِي، و ألِّ خايف اعْلَ شِي؛ وكله حاضنٌ للفساد؛ إلاّ من رحم ربُّكـ ...أقولُ هذا، و أنا أول من يعرف انّهُ في الواقع، لا أحد يكرهُ الحصول على شِي. أنا نبغِي شِي و أنتَ و هو و هي جميعُنا نبْغُو شِي؛ ولكن "عزّة شِي" مع حفظ الكرامة والشرف والنخوَة، ولا تناقض بين الإثنين إذا ما حصل الوعي اللازم.
على أرض الواقع، نحن أمام نوعين من "الشِّي" أي نوعين من المال: المال الخاص والمال العام. ويختلف التعامل معهما باختلاف طبيعتهما. المال الخاص مملوكٌ لشخصية طبيعيّة (personne physique)، وهي إنسانٌ موجودٌ بدمه ولحمه، ويُدافع عن ماله ويحميه، ومن ورائه الأهل والعشيرة والشريعة.. ولا طمع في المال الخاص، مهما بلغت بالناس "عزَّة شِي".. أمَّا المال العام، فشاةٌ بفيفاء! وكل الأطماع تتجه إليه..لماذا؟ لأنَّه مملوكٌ لشخصية اعتبارية أو معنوية (personne morale) اسمها "الدولة". والعقل الموريتاني لم يرضَ حتى الآن عن الدولة ولم ينس كونها من صنع الاستعمار الذي أتى بها وفرضها بالقوة.. 60 عاما مضت على الاستقلال، ولكن المصالحة لم تتم بعد مع الدولة. وفي المخيلة العامة، لا زالت فكرة "المخزن" ومال المخزن حاضرة في الأذهان ولاصقة "بالدولة" ومال الدولة. زد على ذلك أننا لا ندري شيئًا عن الشخصية الاعتبارية والفَرق بينها وبين "الشخصية الطبيعية".
إذا كنا ندري أن الشخصية الطبيعية هي شخص بذاته، حي يُرزق، دمه حرام وماله حرام وعِرضه حرام؛ فإننا لا نفقه شيئا كثيرا عن "الشخصية الاعتبارية" أو "المعنوية" المتمثلة في كِيان أو منشأة تتمتع بالصفة القانونية ولها حقوق ومؤهلات وأملاك منفصلة عن ذات الوكلاء العاملين بها، مثل الدولة، أو الوزارة، أو اللجنة المستقلة للإنتخابات، أو الشركة خفية الإسم.. لم نستوعب حتى الآن الفرق بين الاثنين. والغموض واضح عندما نقول: الميناء لفلان أو الفلانيين، وصوملك نعطات لفلان، و وزارة الطاقة لفلان، والرئاسة عند فلان من الفلانيين، إلخ.. لا نُفرِّق بين المؤسسة من جهة وشخص المدير من جهة أخرى؛ أو على الأصح لا نرى وجودا للمؤسسة منفصلا عن مديرها، ولا نرى لها مالكًا غيره. وبما أن إدارة المؤسسات تنتقل من يد إلى يد؛ ولا تحمل علامة أحد أو مَيسَم أحد .. فهي في النهاية "شاة بفيفاء"..أكلها جائز.
وختاما، أعتقد أن الفساد عندنا جامع لعدة دوافع وأسباب. ومنها تلك الهالة التي يُحاطُ بها "الشِّي" اليوم أو المادة أو المال وما يحظى به من جاه وسلطان عظيم على حساب المعرفة والعقل والروح. ومنها ما هو متَّصل بعهد "اللاّدَولة" وعقلية "الغنيمة" وممارسات الأنظمة السابقة والرأسمالية المتوحشة والعولمة والمظهرية وثقافة الكسب السريع والأكل السريع (fast food)، إلخ... ولا سبيل إلى مواجهته دون خطط وبرامج طويلة الأمد صارمة وصبورة داخل المجتمع نفسه لنفض الغبار عن العقول، ورمْيِ القشور والتمسك بالجَوهر القِيمي الخالص، والعودة إلى الأسرة ودورها، والمدرسة وعطاؤها، والمسجد وأنواره، والدولة و وجودها بقوة القانون وحسن الأداء. ولا بُد من تكثيف حملات التوعوية والتكوين المدني وسنِّ القوانين الرادعة وتنفيذها دون تردد أو تمييز. ويحضرني الآن قول الخليفة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: "لو كان الفقر رجلا لقتلته" مدركًا أنَّ الفقر مرتبط بنظام اقتصادي ينتجه ويعيد إنتاجه. ونحن سكان آفطوط، نقول بأنّ "الفساد" مثل الملاريا، وبأنّ قتل البعوض بعوضة بعوضة لا يجدي شيئًا ضدها، إن لم نتوفّر في الوقت ذاته على تجفيف "المستنقع".. أو نقضي على أودِيَّته وروافده الكبار..على الأقل!
والله المستعان وعليه التكلان.