“إنْ رأيتَ شاعراً من الشعراء، أو عالماً من العلماء، أو نبيلاً في قومه، أو داعياً في أمته قد انقسم الناس في النظر إليه وفي تقدير منزلته انقساماً عظيماً وانفرجت مسافة الخلاف بينهم في شأنه، فافتتن بحبه قوم حتى رفعوه إلى مرتبة الملك، ودان ببغضه آخرون حتى هبطوا به إلى منزلة الشيطان، فاعلم أنه رجل عظيم”…، هذا بعض ما كتبه الأديب مصطفى المنفلوطي تحت عنوان (العظمة) في كتاب (النظرات والعبرات)، ومن أمثلة هذا الانقسام العظيم انقسام الناس حول جمال عبدالناصر، الذي تمر علينا ذكرى وفاته الخمسين في الثامن والعشرين من سبتمبر أيلول الحالي، والذي ارتفع به محبوه إلى الدرجات العُلا من الزعماء والرؤساء، وهبط به مبغضوه إلى الدركات السُفلى من الطغاة والبغاة، ومن أمثلة محبيه الغالين التيار القومي الناصري، ومن أمثلة مبغضيه القالين التيار الديني الإخواني.
هذا الانقسام حول جمال عبد الناصر بين التيارين الناصري والاخواني، أو بصورة أوسع بين التيار العروبي الذي يتبنى رابطة القومية العربية، والتيار الإسلامي الذي يتبنى رابطة الجامعة الإسلامية، انقسام له وجوه عديدة ليس فقط حول شخصية جمال عبدالناصر، ولكن حول قضايا فكرية وسياسية عديدة، لعل أهمها العلاقة بين العروبة والإسلام، إن كانت علاقة تناقض وصدام أم علاقة توافق وانسجام؟، فبالنظر إلى التيار العروبي نجد أنه قد برز لديه اتجاهين: اتجاه يرى أن العلاقة بين العروبة والإسلام علاقة تناقض وصدام، واتجاه آخر يرى أنها علاقة توافق وانسجام.
يرى بعض منظري القومية العربية أن العلاقة بين فكرتي الجامعة الإسلامية والقومية العربية علاقة تناقض وصدام، وأن تيار الجامعة الإسلامية الذي يريد توحيد العرب تحت راية الخلافة الإسلامية حركة رجعية مُتخلّفة تُريد أن تُعيد العرب إلى عصر الظلام، انطلاقاً من رؤية سلبية للدين والإسلام، وترى أن للعرب حضارة قبل الإسلام، وأن رابطة العروبة أقوى من رابطة الإسلام، كما يقول ساطع الحصري المُنّظّر الأول للقومية العربية “الرابطة القومية هي الرابطة الوحيدة القائمة في الدول العربية التي تكفل الانسجام بين المواطنين وانصهارهم في بوتقة أمة واحدة، وتكافح سائر العصبيات المذهبية والطائفية والقبلية والعرقية والإقليمية”. وهذا التيار القومي المتطرف ربط فكرة القومية العربية بمضمون أيديولوجي بعيداً عن الإسلام كالعلمانية اللادينية، كما قال قسطنطين زريق- أحد مفكري القومية العربية – “القومية والعلمنة مرتبطان بعضهما ببعض، بحيث أن وجود وقوة أي منهما يعتمد بشكل مباشر على وجود وقوة الآخر” . والماركسية اللينينية كما جاء في وثيقة المؤتمر الثاني للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الجناح الفلسطيني لحركة القوميين العرب “إنّ النظرية التي تطرح كل قضايا الإنسان والعصر بشكل علمي وثوري هي الماركسية اللينينية”.
التيار العروبي الثاني يرى أنَّ العلاقة بين فكرتي الجامعة الإسلامية والقومية العربية علاقة توافق وانسجام، فلا يمكن الفصل بين العروبة كلغة وهوية، والإسلام كثقافة وحضارة ، فالعلاقة العضوية الجدلية بينهما تتجاوز المفهوم العقائدي للإسلام إلى المفهوم الحضاري الأوسع، باعتبار الإسلام هو المحتوى الحضاري للعروبة، ورسالة العرب للإنسانية، وتراث الحضارة الإسلامية هو تراث العرب جميعاً مسلمين ونصارى، وفي هذا المعنى يقول ميشيل عفلق – مؤسس حزب البعث العربي الاشتراكي- “إنَّ العروبة من غير الإسلام مفهوم سلبي، ومن دونه تبقى القومية العربية قالباً أجوفاً فارغاً، وأنَّ الإسلام هو المضمون الحي الثوري للقومية العربية”. وكتب جمال عبدالناصر زعيم التيار القومي الناصري في كتابه (فلسفة الثورة) عن الرابطة الإسلامية ” لقد ازداد إيماني بمدى الفاعلية الإيجابية التي يمكن أن يترتب على تقوية الرباط الإسلامي بين جميع المسلمين… لا يمكن أن نتجاهل أن هناك عالماً إسلامياً تجمعنا وإياه روابط لا تقربها العقيدة الدينية فحسب، وإنما تشدها حقائق التاريخ”. وكتب عصمت سيف الدولة المفكر القومي في كتابه (أُسس الوحدة العربية) عن علاقة الإسلام بالعروبة: ” لم يكن الإسلام بالنسبة إليها عقيدة فحسب… بل عنصراً من عناصر تكوينها القومي، وكان جزءاً من وجودها ذاته تحققت به وحدة الأرض، ثم أخذت عنه لغتها الواحدة، وصنعت في ظله تاريخها الواحد، فأصبحت بهذا كله أمة عربية واحدة”.
كما برز لدى التيار الإسلامي اتجاهين في تقدير العلاقة بين العروبة والإسلام، التيار الأول يرى أن فكرة القومية العربية مؤامرة على الإسلام والمسلمين لإضعافهم، وفكرة استعمارية لتحطيم وحدة البلدان الإسلامية، ونتاج الغزو الفكري الغربي الذي وصل إلينا عن طريق المبشرين والمستشرقين والمتغربين والمستشرقين والأقليات اليهودية والنصرانية لهدم الإسلام، وتقويض الوحدة الإسلامية، ونزعة جاهلية قد تصل لدرجة الكفر. فقد جاء في مجلة حزب التحرير (الوعي) “إنّ الهدف الأساسي في خلق الحركات القومية كان تفتيت الوحدة الإسلامية، وإسقاط الوجود السياسي للإسلام، فقد أُسست هذه الدعوات في وقت كانت فيه أغلب الشعوب الإسلامية متصلة ومتحدة فمزّقتها باسم القومية”. وانتقد التيار السلفي الوهابي ممثلاً في الشيخ عبدالعزيز بن باز الدعوة إلى القومية العربية قائلاً : ” من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة أن الدعوة إلى القومية العربية أو غيرها من القوميات، دعوة باطلة، وخطأ عظيم، ومنكر ظاهر، وجاهلية، وكيد سافر للإسلام وأهله”. ورأى الإمام حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين أن القومية المقترنة بالجنس والمنفصلة عن الإسلام مرفوضة، وكتب المفكر الإسلامي سيد قطب في (معالم في الطريق) رافضاً الرابطة القومية كأساس لبناء الأمة وبناء الحضارة.
أما التيار الإسلامي الذي يحمل فكرة الجامعة الإسلامية التنويرية بزعامة الشيخين المُصلحين: جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده اللذان قدما أطروحة فكرية نفت التناقض بين العروبة والإسلام، وأكدت التمايز القومي التكاملي داخل الرابطة الإسلامية، وأن هذا التوافق بينهما يعكس مكانة العروبة في الإسلام الدين والإسلام الحضارة، ومكانة الإسلام باعتباره الرسالة الخالدة التي بؤأت للجماعة العربية مركز القيادة لشعوب الشرق منذ الوحي. ولم يُفرّق صاحب كتاب (طبائع الاستبداد) عبدالرحمن الكواكبي بين العروبة والإسلام على أرضية رفض الاستبداد التركي ونفي أحقيتهم بالخلافة الإسلامية، وتأكيد أحقية العرب بها، وضرورة عودة الخلافة إليهم، وعودة التلاحم بين العروبة والإسلام، لإعادة مجد الإسلام الضائع بالقيادة العربية. ورأى المجاهد الجزائري الكبير عبدالحميد بن باديس في العربية مضمون حضاري غير عرقي، وفي اللغة أبرز جامعات العروبة كأمة، وأن الإسلام هو الرسالة الخالدة التي هيأت للجماعة العربية مركز القيادة لشعوب الشرق. والشيخ المُجدد محمد الغزالي يرى في العروبة وعاءً للإسلام، وأن الثقافة الإسلامية قامت على ركنين هما: الدين الإسلامي واللغة العربية فلا يوجد تناقض بين القومية كلغة وثقافة والدين كرسالة ومنهج.
إشكالية العلاقة بين العروبة والإسلام لدى التيارين القومي والديني كانت حاضرة بنفس الدرجة عند المُفكر الإسلامي الفلسطيني فتحي الشقاقي فقد رأى في التناقض بين العروبة والإسلام تناقضاً وهمياً سببه المحتوى الايديولوجي العلماني أو الماركسي للقومية العربية، فليس هناك تلازم ضروري بين القومية العربية وكل من العلمانية والماركسية، فالقومية العربية يجب أن يكون محتواها الفكري إسلامي لينسجم مع الإسلام كدين لمعظم العرب وثقافة لكل العرب. وقدّم رؤية لإعادة قراءة كل تيار لتجربة الآخر على أرضية تعميق التحالف ضد الاستعمار والاستبداد والتجربة والتبعية، والاعتراف بدور الإسلام كقوة مُحرّكة للأمة في صراعها ضد المشروع الاستعماري الغربي نحو التحرر والوحدة والنهضة.
خلاصة الأمر لا يوجد تناقض حقيقي بين العروبة والإسلام، أو بين فكرة القومية العربية، وفكرة الجامعة الإسلامية، كرابطتين موحدتين للأمة العربية في إطار الأمة الإسلامية، والتناقض يبرز بسبب المحتوى الفكري والسياسي لكل من منظري الفكرتين أو التيارين، كأن يكون المحتوى الفكري والسياسي للقومية العربية هو العلمانية اللادينية، أو الاشتراكية المُلحدة، اللتان تريدان فصل الأمة عن أساس وجودها ومصدر قوتها ووقود نهضتها. وكأن يكون المحتوى الفكري والسياسي للتيار الإسلامي نافياً لوجود القومية، ومتجاهلاً لدورها، ومُنكراً لجوانبها الإيجابية في إطار وحدة الأمة الإسلامية. ختاماً أن العروبة وعاء يملأهُ الإسلام، وأن وجود العرب كأمة وبقائهم ونهضتهم مرتبط بالإسلام كدين وثقافة وحضارة وثورة، إذا أرادوا مكاناً بين الأُمم تحت الشمس.