في البداية، أرغَمَت التعبئة العامة والدعاية الإعلامية اللتين كان يقوم بهما النظام الحاكم، واصفا معارضي الحرب بأنهم "أعداء الوطن"، الحركة الوطنية الديمقراطية MND والبعثيين على توخي الحذر. ولولا موضوعية تحليلاتنا وقناعتُنا الراسخة بأن الحرب لن تؤدي إلّا إلى هزيمة شنعاء، لها عواقب مؤسفة، لَشَعَرْنا بالضيق والعزلة. ولكن، لم نشعر أبداً بأننا في موقف ضعف، رغم السوط الإعلامي المستمر ليلا ونهارا.
بل بالعكس، كنا نعتبر، يوما بعد يوم، أننا على الطريق الصحيح. وكنا متأكدين أن الوضع القائم سينتهي بمأساة بالنسبة للنظام. كيف؟ لا نعرف بالضبط. هناك أكثر من سيناريو محتمل، وأكثر الإحتمالات سوءً هو الذي كان مُتوقعا.
بدأ الناس في الشارع يحصون يوميا، بسِرّية من الفم إلى الأذن، عدد القتلى، وأحيانا مع ذكر بعض الأسماء. في الحرب دائما، وهذا معروف، يكون النصيب اليومي هو الموت والحداد، ولكن، في حرب أهلية بدون وازع وبدون آفاق، تكون إراقة الدماء وسكب الدموع مجانا، أشياء لا تطاق.
وبعد شهور، فهِم السكان بأن ما كان يُشار إليه بالتصريح أو بالتلميح، غير صحيح، وهو أنه يكفينا أن نُبيِّن قوتنا ليرفع الجميع راية الهزيمة البيضاء. ولا أحدًا يعرف من أين جاء هذا التفاؤل الخالي من الواقعية، والذي لا محالة، ستتبيّنُ عدم صحته في النهاية.
بدأ النشاط الإقتصادي ينكمش، وظهرت بجلاء أمارات الإرتباك.
بدأت الخزينة العامة تُقسّط وتُحصّص تسديداتها. وفجأة، في شهر يونيو 1976، وبدون سابق إنذار، دخل طابور عسكري ضاحية أنواكشوط، في ضحى النهار، وبدأ في حدود الساعة العاشرة، يقصف بمدافعه الثقيلة والخفيفة العاصمة بدء بالرئاسة. وفي حدود الساعة الواحدة زوالا بثّت الإذاعة بيانا رسميا مُطمئنا، يجزمُ بأن المهاجمين إما قد قضيّ عليهم وإما أنهم فروا. لكن النفي لم يطل انتظاره، ففي نفس اليوم، عند الساعة العاشرة مساء، بدأ من جديد قصف أنواكشوط بشكل أعتى من قبل.
في اليوم الموالي والأيام اللاحقة، بثّت الإذاعة بيانات أخرى اعتيادية وغير مُقنعة. تلاشت الثقة في في ادعاءات الحكومة، وهي لعَمْري، مأساة شنيعة عندما يفقد السكان الثقة في أقوال حكومتهم.
تلاحقت عمليات الهجوم في الأشهر الموالية، على عدة مدن وعلى السكة الحديدية للقطار المنجمي، دون أن تكون ردود الفعل دائما موفقة أو صائبة. واستمرت على هذا النسق المأساوي والمدمر للمعنويات على مدى السنتين اللاحقتين. ورغم دخول الطائرات الفرنسية "جاگوار" التي لَمّعتْ الدعاية -إبّان العمليات- فعاليتها ودقتها وسرعتها، حتى قيل بأنها لا تُرى بالعين المجردة، إضافة إلى الكثير من الميزات الأخرى المُبالغ فيها، فإنها لم تستطع أن تمنع شيئا على الأرض. فلا العمليات ضد المدن في الداخل قد توقفت، ولا على المواقع التكتيكية للقوات المسلحة.
في صباح يوم فاتح مايو 1977، استيقظت مدينة أزويرات المنجمية على كابوس مزعج. حدث الهجوم مبكرا، وقد أوقع عددا كبيرا من القتلى من بينهم فرنسيون. كما تم اختطاف عشرة أشخاص كان بينهم ستة فرنسيين. يميل الإنسان إلى القول بأن الأمور كانت تتعقد بالنسبة للفرنسيين. أما بالنسبة لموريتانيا، فقد تجاوزت الأمور مرحلة التعقيد.
إذن، كان فاتح مايو 1977 ضربة كبرى قضت على دعاية الإذاعة المُغرضة وعلى ادعاءات النظام. وعلى العموم، كان ينبغي انتظار سبتمبر 1977 لسماع صوت الرعد الكبير في سماء صافية. وفي وقت هادئ بعد الظهر، بدأ قصف أنواكشوط بالمدافع الثقيلة، بالضبط من المكان الذي سبق أن تعرض فيه للدك في يونيو 1976.
في حدود الخامسة بعد الظهر، بدأت القذائف تنهال على الأحياء المختلفة وعلى مقر الرئاسة قبل غيره. لا أحد يُصدّق.
تبيّن بجلاء بأن البلد وصل إلى قعر مأزق بشكل نهائي.
في معسكر الرسميين، أصبح مجرد النظر إلى الآخرين عذابا لا يطاق. أما في معسكر المعارضين للحرب، فكان النظر إلى الآخر، هو تعبير فصيح عن أن الأمور قد وصلت إلى مستوى أخطر من ما يُتصوّر. فكيف يمكن أن يمرّ طابوران مدججان بالسلاح والرجال على طول التراب الوطني، بدون أي عثرة، على مدى سنتين متواليتين، دون أن يواجها مقاومة، ودون أن يُكتشفا، أو يُبلّغ عنهما، قبل أن يصلا إلى تفرغ زينه وبوابة السيارات في الرئاسة. فهذا هو البرهان القاطع على الفشل وعلى عدم الكفاءة.
بالتأكيد، كشفت الحرب عن حجم الخطأ، فشروط النصر لم تكن قط قد تتبلورت مُسبقا بجلاء.
في هذا الشهر بالذات، اتصل العسكريون بجماعة البعثيين، وأخبروهم بضرورة وإلحاح العمل من أجل التغيير على مستوى رأس الدولة قبل أن تنهار، ويتأرحج البلد في الفوضى. وبعد أن وطّن البعثيون أنفسهم على صواب الفكرة، اتصلوا بدورهم بجماعة MND لإعلامهم بالخبر.. وبهذا المسار، الذي بدون أن يكون مثاليا، أصبح يفرض نفسه كمخرج من نفق الحرب..
استمر التنسيق بين الحركتين بشكل كثيف طيلة سنتين، واستوجب أكثر من قناة في مرحلة الخطر على الحركتين. فالنظام الحاكم كان يعتبر الحركتين في تلك المرحلة "طابروا خامسا" . إلا أن المختار ولد داداه لم يكن يريد أن يضيف إلى انشغالاته الخارجية متاعب جديدة بفتح جبهة داخلية في وضع غير مؤات بالنسبة له، ولن يكون له من نتيجة سوى رفع المعارضين إلى مستوى الأبطال على خلفية حرب تتناقص شعبيتها يوما بعد يوم.
وخلال الأشهر اللاحقة، استمر الوضع في التدهور على المستوى العسكري، وعلى المستويات الإقتصادية والإجتماعية، والمالية للدولة. على المستوى السياسي، كان التيار المعادي للحرب يزداد بروزا، وينمو ويتوسع باستمرار، بحيث زالت العزلة تماما عن جماعة MND وعن البعثيين، وأقيمت علاقات جديدة، وأصبح النظام هو الذي تزداد عزلته بدون أن يُدرك المستوى المتدني الذي بلغته.
لم يُغير تواجد القوات المغربية في المدن الشمالية ميزان القوى الحقيقي، مع أن تلك القوات كانت تُقدر بإثني عشر ألف رجل، كما أنه لم يجلب الطمأنينة للسكان.
في نهاية سنة 1977، وصل التدهور إلى مستوى جديد غير مألوف. في الدوائر الأجنيبة، باتت نهاية الدولة الموريتانية موضوع تداول جدّي. وسواء وصله الخبر بشكل عادي أم أنه كان شريكا في صفقة ما، فقد طالب سينغور بحصته وهي جنوب موريتانيا، وذلك من خلال مقابلة صحفية أجراها مع مجلة "جون آفريك" في ديسمبر 1977. ما هي الدولة التي كانت ستبتلع بقية موريتانيا؟ ليست بالقطع تايلاندا... وإلى أي قوة مهيمنة في المنطقة كان سينغور يُوّجه طلبه؟ طبعا، يصعب تصور أنها اليابان...
حصل التغيير إذن في العاشر من يوليو 1978. وبطبيعة الحال، فقد فاجأ الجميع، المواطنين، والبعثات الدبلوماسية، والرسميين، إلا أنه كان بمثابة انفراج للبلد، بمن فيه، حسب ما قيل وقتها. حتى للحكومة نفسها، التي كانت في حالة حشر، وهي مهزومة لا تعرف إلى أين تتجه للبحث عن أمل أو نجدة، وهي أمام وضع ميؤوس منه.
الخزينة العامة كانت في حالة جفاف تام، ومن أجل تسديد رواتب الموظفين ووكلاء الدولة، تم اللجوء إلى ممارسات مالية غير أورثودوكسية، بأخذ مبالغ من خزائن شرائك الدولة.
لم يكن هناك أمل في تسديد الرواتب وقتها لشهر يوليو 1978. وصرخات الإستغاثة الموجهة إلى البلدان الميسورة لم تأت بنتيجة.
في النهاية، تلك الرواتب سددتها السلطات الجديدة بدعم مالي مُستعجل أنجدت به ليبيا الحكم الجديد، مظنة بأنه رأس حربة من أجل ثورة جديدة، في الوقت الذي كان التغيير مجرد عملية إنقاذ وطني، دون أدنى طموح أو ادّعاء ثوري أو اشتراكي أو قومي عربي.
أحمد ولد الوافي والمحجوب ولد بيّه اللذين التقيا بالقذافي مباشرة بعد التغيير باسم "العاشر يوليو"، خلال مباريات خطابيّة استمرت ليلا ونهارا لمدة يومين أوثلاثة، قد يكونان بالغا في التماهي مع آمال وتطلعات القائد، ولا بد أنهما قد استعانا لذلك بآثار وظلّ من نبرات ونغمات كامنة في أذهانهما منذ أن كانا في حركة القوميين العرب. لقد كان هدفهم الأول والأخير هو أن يُؤدوا بخليفة جمال عبد الناصر، إلى أن يفكّ حبال كيس ماله. وأتذكر أننا كنا ننتظرعودتهما كحامليْ ترياق من أجل نجدة البلد.
كان اللفيف السياسي المعني بالتغيير، يضم أساسا، وجهاء محافظين ليست لديهم ميول نحو الثورة، ولكنهم يرفضون بشدة مغامرة حربية مُدمّرة وبدون سبب مقبول. أما الحركات التقدمية التي انخرطت من أجل كل ما من شأنه أن يوقف الحرب بين الأشقاء، مع قدر من التوجس من ما سيأتي بعد التغيير، فلم تكن تتطلع على الإطلاق، إلى تطبيق أفكارها في بلد يمتاز بدرجة مخيفة من التأخر، لا تشجع على التغييرات المجتمعية النوعية.
هذه كانت الأطروحة الأساسية للحركة الوطنية الديمقراطية MND، وهي أطروحة احتياطية للبعثيين، الذين كانوا، يرجعون في التعامل مع الأمور الرئيسية كمسألة الحكم، إلى كتابهم المفضل، كتاب ميشيل عفلق الذي يُحيطونه بمسحة من التقدير إن لم تكن من التقديس، تفاديا للسقوط في الهرطقة. يقول ميشيل عفلق حرفيا: "إنها نظرة ضالة سطحية تلك التي تسمى الإصلاحات الجزئية التي تحققها بعض الأقطار ثورة وانقلابا، في حين أنه لا ثورة جدّية إلا في نطاق الأمة العربية الواحدة".
هذا الصوفي الفريد متعلق بالفكرة السياسية المطلقة، لا تُغريه سلطة الدولة ما دامت غير مرتبطة بثورة شاملة على مستوى الأمة العربية ككل. وأكثر من ذلك، فهو يعتبر أن السلطة تُفسد، وأنه من الأفضل للمناضل أن يكون في قعر زنزانة – الشيء الذي يُعمّق الوعي السياسي- بدلاً من الوجود في السلطة.
الوجود في السلطة في قُطر عربي، لا محالة سيؤول إلى الإنزلاق، الضار أكثر من غيره، وهو أن ينشغل المناضلون الأكثر كفاءة ووعياً، بمهام الدولة التي لا حلّ لها على المستوى القُطري، وأن تُنسى الثورة. أما الهدف الأساسي والأسمى-في نظرة- فهو أن يسترجع العرب كرامتهم وعزتهم المفقودة، وأن يشاركوا إلى جانب الأمم الأخرى، على نفس المستوى، في المسيرة الإنسانية الحديثة من أجل التقدم. إلّا أن العرب لن يسترجعوا كرامتهم وقدراتهم الخلاقة إلّا في إطار الوحدة القومية، كما يجزم.
المشاركة في تغيير العاشر يوليو كانت مجرد واجب وطني من أجل الحفاظ على السكان المحليين، دون أدنى إرادة أو طموح ثوري، إلى درجة أن القيادة القومية للحزب نفسها لم تُشعر به مُسبقا، وقد علمت بالخبر، كجميع الناس، يوم العاشر يوليو.
العراق الذي كانت تقوده قيادة قُطرية من البعث، كان يُساند موقف المغرب، تحت ذريعة أنه لا يريد تعدد الكيانات العربية، والمزيد من تشرذم العرب وراء حدود مصطنعة. بينما البعثيون المحليون لم يفهموا يوما واحدا- حتى ولو كانوا قد التزموا الصمت على الموضوع- التعويل على وحدويّة المغرب، هذه الدولة التي تقل يوما واحدا كلمة إيجابية عن العرب، وتُفضّل أن تكون "بورتو ريكو" الإتحاد الأوروبي بدلّا من أن تكون قائد اتحاد عربي مغاربي يزيد على مائة مليون نسمة.
تيار الحزب الذي كان يريد تصحيح هذا الغلط أصيب بتصفية شنيعة في يوليو 1979.
بعد الهزات التي أصابت سلطة العاشر يوليو، بعد تسعة أو عشرة شهور من قيامها، هاهي تُقرر نصب العداء من جديد للحركة الوطنية الديمقراطية MND وللبعثيين. وسرعان ما قرر مجلس الوزراء اعتقال ثلاثة عناصر قيادية من كل حركة. كانت الحركة الوطنية الديمقراطية سباقة في الحصول على الخبر، وأخبرت به البعثيين دون تأخير.
كانت أول ردة فعل، هي الدخول في السرية. وقد أخبرَنا قادةُ الحركة الوطنية الديمقراطية الثلاثة، ومن بينهم محمد المصطفى، بعد فترة وجيزة، عن طريق القنوات القائمة معهم، بأنهم قرروا الخروج إلى السنغال، وطلبوا منا أن نلتحق بهم هناك، لكي نجد حدا أدنى من الحرية في التصرف وإتاحة فرصة للتشاور المعمّق من أجل تحديد مسار مناسب أمام الوضع السياسي الطارئ. قرر البعثيون التريث لمدة أسبوع أو إثنين في مخابئهم المحلية بالنسبة لاثنين منهم، أما الثالث فتقرر إرساله إلى غينيا، حيث سيكون أكثر أمنا هناك، بدلا من احتمال وشاية إلى سينغور، وهو العضو البارز في التحالف الذي يضم المغرب والسنغال وفرنسا، وهو التحالف المعادي للعاشر يوليو ولموريتانيا ككيان وللحركات التي تُشتم فيها رائحة التقدمية (الأمثلة الآن قد أصبحت متسعة في ما يخص موريتانيا: 1977، 1981، 1990 والمناسبات الثلاث جرت تحت أنظمة مختلفة تماما).
إلّا أن تطورات جديدة غير مُتوقعة قد حصلت على الساحة الوطنية، وتضاءل الخطر الذي كنا نخشاه. عند ذلك، التحقتُ أنا وممّد ولد أحمد، بأصدقائنا من الحركة الوطنية الديمقراطية وهم: محمد المصطفى، وموسى فال، ومحمدّو ناجي ولد محمد أحمد، في السنغال، مع أننا قد استمرينا في اتباع الإحتياطات القصوى وكأننا نخشى الموت. هناك عشنا نحن الستة في نفس المنزل.
زارتنا شخصيات وطنية، في السنغال لتعبر لنا عن المؤازرة، دون أن نلتقي معها في محل إقامتنا. كان من أبرزها وزير الداخلية السابق جدو ولد السالك، صاحب الشجاعة الأسطورية، وأحمد باب ولد أحمد مسكه، الأمين العام السابق لحزب النهضة، الذي صارع من أجل استقلال موريتانيا.
وفي يوم من الأيام، أصبح من الضروري أن ننقسم إلى مجموعتين، إحداهما تسافر، والأخرى تبقى في نفس المكان حتى إشعار إشعار جديد، والمزيد من الضمانات. كانت المجموعة المسافرة تضم محمد المصطفى وموسى فال، وأنا.
وبعد نصف يوم من السفر على متن سيارة، قررنا النزول منها في بادية سينغالية لا نعرف عنها أي شيء، وكان الحر في أوجه. وبعد كيلومترات من السير على الأقدام، وهو سير متردد لأننا لم نكن متأكدين من أننا نسير في الإتجاه الصحيح، إضافة على كوننا مُثقلين بأمتعتنا، أكتشفنا بسرعة بأنه من الأفضل لنا أن نحمل الأمتعة على رؤوسنا بدلا من حملها بالأيدي.
وبعد هذا الإكتشاف الذي خفف من ورطتنا، دخلنا، دون اختيار، في مساحة طويلة عريضة، مكشوفة، لا وجود بها لأشجار أو عقبات تساعد على التخفي، ولم نكن مطمئنين لها لأننا لا ندري إن كان هنالك من يرانا من بعيد، فقد يكون مُخبرا للأمن الموريتاني، تسرب إليه خبرٌ عنا، وقد يكون تابعا للأمن السنغالي الذي طلب منه الأمن الموريتاني التحري عنا وتسليمنا في حالة العثور علينا؟ وفي هذه الحيرة الصامتة، لاحظ محمد المصطفى أن سيرنا على جبهة أفقية من ثلاثة أشخاص مثير للإنتباه، وأنه يجب علينا أن نغير هندسة سيرنا، وأن نؤقلم تصرفاتنا مع العقلية السائدة ومع البسيكو-سوسويولوجيا السنغالية، وأضاف أن أحدنا عليه أن يلعب دور "حيدرا"- أي الشريف- والآخرين دور تلاميذ "حيدرا". وربما كانت عوامل تلقائية تهيئني أكثر لهذا الدور.
احتفظت، شخصيا لأنني واحد مع اثنين، بجانب التقدير الذكي والمحتشم اللطف قبل جانب التهكم.
أخذ محمد المصطفى وموسى دور المُريديْن، وجردوني من المتاع الذي أضافاه إلى الأحمال التي كانت ترهقهما أصلا. وقد غيّرتُ بنفس المناسبة لثامي الأسود بلثام أبيض لأحد الصديقين، لأنه أكثر ملائمة لمقامي الجديد. الثوب يصنع كثيرا الراهب، عكس ما يقال..
بدأنا المسير من جديد، ولكن هذه المرة على الطريقة الهندية العمودية. كان أصدقائي يُبالغون في المسافة التي تفصلهم عني، لكي يُبرزوا تواضعهم ودرجة بالإحترام التي يكنونها لشريفهم.
كان السير يزداد صعوبة بالنسبة لأصدقائي، وتتقطعه وقفات لتغيير موقع شنطة على الرأس أو يدٍ لتستريح من حمل أخرى.
وبعد مسافة خمس كلومترات- وكأنها بدت لنا عشرة أو خمسة عشر كيلومترا- بانت لنا قرية صغيرة جدا تتكون من ثلاثة أو أربعة أكواخ. وقد فهمنا بأننا صرنا على مقربة من شاطئ النهر الذي نبحث عنه. الآن نحن بحاجة أساسا، على مكان معزول وهادئ لنأخذ قسطا من الراحة، ونترك الوقت لليل، هذا المُتواطئ الدائم مع كل شريد وهارب، مُطارد، ومذعور، وكل خارج على القانون أو مُجرم، ليبسُط سدوله، لكي نتمكن من عبور المجرى المائي تحت جُنْح الظلام..
يتواصل...