كان البلد يحتاج بصفة ملحة إلى أبسط البنى اللازمة لأي مجتمع عصري كما أن اتساع رقعته الجغرافية وندرة موارده والمطالب المغربية كانت عوائق تكبل الإدارة السياسية.
خلفت هذه الوضعية جملة من التحديات كانت تتطلب من القائمين على الأمر بناء استراتيجية تضمن تجاوز هذه المصاعب دون مخاطر، وانصب تفكير القيادة الجديدة منذ البداية على أن تجعل من موريتانيا جسرا للتواصل بين العالمين العربي والإفريقي كما سعت بخطوات حثيثة نحو تطوير المجتمع لتعوض فراغا في رصيدها النضالي ظلت تعاني منه ولو ضمنيا طيلة سنوات عديدة.
لقد عكس هذا التوجه إرادة النهوض بهذه الدولة وهو ما صرح به المختار ولد داداه نفسه في فترة سابقة حين أعلن عزمه العمل من أجل هذا الهدف معبرا عن وعيه بطبيعة المرحلة قائلا: "إننا أمة تنشأ ولدينا الوعي بذلك فلنبن معا الأمة الموريتانية" مؤكدا في نفس السياق على ضرورة التمسك بالهوية الثقافية للبلد باعتبار: "أن موريتانيا هي بالفعل جسر طبيعي وهمزة وصل بين العالم العربي والعالم الأسود، فموريتانيا كانت ومازالت وستظل البلد الذي تنمو فيه معا الثقافة الإسلامية التقليدية والثقافة العربية دون تعارض بل على العكس من ذلك في تكامل وتوازن".
وهنا يحاول المختار ولد داداه أن يدافع عن موقفه من العلاقة مع فرنسا مبرزا خلفيته التي ظلت تطغى على توجهاته طيلة مساره السياسي قائلا:
"إن القطيعة مع صداقة فرنسا تعني العزوف عن كل خيار يضمن مستقبلا زاهرا لبلادنا، إنها تعني الرجوع إلى الوراء ونبذ كل فكرة للتطور، وكل فكرة لموريتانيا كبيرة غنية ومزدهرة".
ويعبر المختار بن داداه في معرض لاحق عن مدى تمسكه بالمحيط المغاربي قائلا: "إذا كان لنا أن نختار بين فدرالية مغاربية وفدرالية غربية إفريقية فرنسية فإن خيارنا سيتجه إلى المغرب العربي" ثم يجدد في موقف آخر وفي لحظة استحضار ارتباطه الوثيق بفرنسا عرفانا بجميلها وسابق بفضلها قائلا إنه: "في الوقت الذي تمنحنا فرنسا من خلال مؤسسات كريمة حق تقرير المصير بحرية نقول: لا للمغرب لقد كنا موريتانيين وسنظل دوما موريتانيين ضمن إفريقيا الغربية والاتحاد الفرنسي" ويعكس هذا التأرجح في المواقف نوعا من الارتباك في طريقة التعامل مع قضايا جد حرجة، فهو يواجه جملة من التحديات تقتضي منه أن يتخذ موقفا يستجيب لمتطلبات جميع الأطراف فهو من جهة مشغول بمشاكل إرث تركه الاستعمار ويتعلق بواقع التردي الذي يفرض اللجوء إلى المساعدة الفرنسية و"الالتزام بمواقفها" وفي مقابل ذلك هنالك حركات وطنية استطاعت أن تعبئ أغلب القوى السياسية لصالح القطيعة مع الاستعمار والتخلص من عقدة الاحتماء بمظلة فرنسا.
هذه الحيرة السياسية تبددت أمام الأمر الواقع وضرورة التعامل وفق ما تقتضيه المصلحة الوطنية لموريتانيا حيث أصبح من الواجب أن تتحدد المواقف وتتوقف الازدواجية وكان ذلك يتطلب العمل على محورين:
محور تعزيز موقع النظام في مجتمع ما تزال جل فئاته تحت تأثير الولاء القبلي والعرقي وذلك بتكوين شرعية سياسية دستورية تحل محل الشرعية التقليدية الجينايولوجية؛
محور الكفاح من أجل حماية الاستقلال والذب عن السيادة الوطنية لتقويض المطامع التوسعية المغربية وتحقيق نجاحات دولية وإقليمية رغم الموقفين السوفيتي والمصري اللذين ظلا يفشلان كل محاولات فك العزلة الخارجية والانفتاح على العالمين العربي والشيوعي، كانت الدولة العربية الوحيدة التي اعترفت بموريتانيا آنذاك هي الجمهورية التونسية.
رغم ذلك كانت موريتانيا نشطة على مستوى القارة السوداء حيث حظيت بقبول كبير وكانت عضوا مؤسسا لمنظمة الوحدة الإفريقية سنة 1963 وقد شكل هذان المحوران العمود الفقري للاستراتيجية السياسية التي عمل النظام على تطبيقها ولعل من أبرز مقومات هذه الاستراتيجية التوجه نحو توحيد الممارسة السياسية وذلك في ظرفية كانت تتميز بالتعددية السياسية ووجود أحزاب نشطة تعمل منذ الاصلاحات الاستعمارية بدء بالانتخابات التشريعية في 1946 و1915 وحتى ما بعد الاستقلال معبرة عن خيارات عقائدية متنوعة تعكس في جملتها المطالب الوطنية في الاستقلال.