لطالما اعتمدت الولايات المتحدة الامريكية في سياستها الخارجية على منهج الغطرسة المعتمدة على فائض القوة والتفوق العسكري والاقتصادي لتمارس هيمنتها على دول العالم والتي شرعنت من خلال استخدامها لهذا المنهج التدخل بالشؤون الداخلية للدول مستخدمة مصطلحات الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان ومحاربة الارهاب ذريعة في تحقيق مآربها عبر منابر دولية وعقوبات اقتصادية وشنها لحروب عسكرية عبر جنودها النظاميين وحلف الناتو وقوات الارهاب الدولي .
إلا ان هذه التدخلات الامريكية عبر تاريخ هذه الامبراطورية نجحت في تحديد الذريعة لشن عدوانها على الدولة المستهدفة لكنها فشلت في تحديد نتائج هذا العدوان والتوقيت الذي تحتاجه لتحقيق اهدافها .
واليوم والعالم بأسره يراقب الحالة الافغانية والخروج الأمريكي المذل من افغانستان وكيف هربت امريكا من هذا البلد بعد ما خاضت ضده حرب العقدين تاركة خلفها حلفاؤها الذين دعموا وشرعنوا هذا العدوان على بلدهم متروكين ليواجهوا مصيرهم المحتوم مع حركة طالبان وهذا السلوك ليس بجديد على واشنطن فهذا سلوكها مع العملاء وكل من تسميهم حلفاء والتاريخ يشهد على هذا .
الجديد في الأمر هو التقدم التكنولوجي والتقني والفضاء الاعلامي الواسع الذي رافق هذا الخروج ليكون كل مواطن افغاني هو اعلامي يغطي هذا الحدث .
فشلت واشنطن بعد عقدين من الزمن أن تقضي على القاعدة وعلى حركة طالبان التي طالما شكلت دعما كبيرا للقاعدة وفشلت في الحفاظ على حياة الحكومة الافغانية العميلة لها وفشلت ايضا في تحقيق ابسط الاهداف التي شرعنت من خلالها عدوانها على افغانستان .
ليشكل خروجها بهذا الشكل الفوضوي حالة من الفراغ الاستراتيجي المتعمد من قبل واشنطن تاركة خلفها الشعب الافغاني عرضة للجوع والقهر وانعدام ابسط الحياة الانسانية في ظل غياب حكومة للبلاد تدير امورها وتفرض فيها الامن والاستقرار .
حاولت ادارة بايدن وعبر اتخاذها لهذه الخطوة تحويل انكساراتها وهزائمها خلال العقدين الماضيين الى نصر مستقبلي تبني عليه هذه الادارة اولى لبنات مخططاتها حيال دول تنافسها عالميا في عدة مجالات وتهزمها في عدة جبهات مثل الصين وروسيا وايران الذين تعتبرهم واشنطن اعداءها وليس منافسيها .
فكانت هذه الخطوة الامريكية ليست عبثية بل خطوة استراتيجية لناحية ترك البلاد تعيش في حروب وصرعات بين حركة طالبان ومناوئيها من شعب وبقايا حكومة وفصائل إرهاب متعددة موجوده في افغانستان بالإضافة لتحويل هذا البلد الى مقرا ومنطلقا لقوى الارهاب الدولي ومعبرا تسير عبره هذه الجماعات إلى الدول المراد ضرب الامن والاستقرار فيها والتأثير بذلك على أمنها وحركة اقتصادها، وفي هذا السياق ما جاء فيما يشبه تحذيرا من قبل الرئيس الروسي بوتين وقوله بأنه يجب منع تسلل الإرهابيين من أفغانستان إلى الدول المجاورة تحت غطاء اللاجئين.
جملة من المؤشرات التي يحملها مشهد ما بعد الهزيمة والانسحاب الامريكي من افغانستان تؤكد سيناريو صناعة الفخ الامريكي في افغانستان وما مباركة فصائل ومجاميع الارهاب ومنها هيئة تحرير الشام الارهابية في سورية لحركة طالبان في يوم استيلائها على السلطة وما سيترتب على هذا الاستحواذ من فتح شهية الاسلام الراديكالي في عدة دول جارة لأفغانستان واخرى تعاني من ارهاب هذه المجموعات منذ سنوات، إلا واحدة من الاشارات التي يصعب معها تخيل مستقبل مستقر لأفغانستان طالبان، والايام المقبلة ستكون حبلى بمفاجأت الارهاب العالمي بنفس الإدارة الامريكية لهذا الارهاب .
وبالنظر لتاريخ هذه الحركة والايديولوجية التي تسيطر على سلوكها يصبح من الصعب علينا ان نستقرأ مستقبل آمن لافغانستان ولدول الجوار
ولعل ما صرح به الرئيس الامريكي جو بايدن في مقابلة لقناة ABC الامريكية عندما سئل إن كانت طالبان غيرت سلوكها فأجاب بالنفي واضاف انه لا يعتقد ان حركة طالبان غيرت معتقداتها وفي هذا مؤشر واضح ان قرار واشنطن بمغادرة افغانستان لتعيش حالة من الفرغ السياسي والفوضى وتركها بيئة خصبة لممارسات الجماعات الارهابية التي اعترف الرئيس الامريكي بايدن في نفس المقابلة بوجودها وذكر كلا من القاعدة وداعش .
هذه المؤشرات تدفعنا للقول ان قرار الخروج الامريكي على الشكل الذي رآه العالم اجمع والتي كانت الفوضى اهم عناوينه لم يكن عبثيا بل مدروسا الهدف منه تحويل افغانستان لفخ استراتيجي تستطيع من خلاله واشنطن الانتقال للخطة باء المتمثلة بالخروج من منطقة الشرق الاوسط للتفرغ لدول غرب آسيا وفي مقدمتهم الصين وروسيا وايران .