منذ سقوط نظام الحزب الجمهوري أغشت 2005 انتصر خطاب محاربة الفساد إلى حد كبير، وأصبح ركيزة مهمة من ركائز الخطاب السياسي بشقيه الموالي والمعارض.
ورغم ما شاب الفترة الانتقالية الأولى 2005/2007 من شوائب فقد وضعت أسسا نظرية مهمة في إطار تفعيل مؤسسات الرقابة والتفتيش، وكانت تلك فترة بعث مفتشية الدولة وغيرها، ثم كرس الرئيس المدني الراحل سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، رحمه الله، ذلك الدور وزاده بمزيد من السعي لاستقلالية المؤسسات، وشجع استقلال البرلمان.
جاء انقلاب 2008 الكارثي ولكنه حمل شعار محاربة الفساد في الخطاب الرسمي بشكل لم يسبق من قبل، فتم سجن العديد من المسؤولين واسترجاع الكثير من الأموال، ورغم ما شاب ذلك من تصفية الحسابات بشكل فج والانتقام بعض الأحيان، والسطو على صلاحيات القضاء، إلا أن خطاب محاربة الفساد بقي حيا، وبقي الكثير من المسؤولين يخافون العقاب ويهابون المال العام، مع ثراء كبير وسريع لبطانة قليلة مقربة.
تعطيل مؤسسات الرقابة
أما النظام الحالي فإنه لا يدعي محاربة الفساد، حتى في خطابات الحملة لم يرفع شعار محاربة الفساد، بل إنه يهادنه ويجامل القوى التقليدية التي تنجب الفساد وترعاه وتستفيد منه. والمتتبع لتعيينات أصحاب السوابق في التسيير، وتوسيع دائرة صفقات التراضي بشكل هيستيري، وتزايد القروض لأمور أكثرها غير ضروري في ظل مديونية كارثية، وصناعة طبقة مالية جديدة يدرك أن فلسفة النظام الحالي هي تعميم الفساد ما أمكن وتوريط _ أو مكافأة _ أكبر عدد ممكن من الشبكات الاجتماعية والسياسية المقربة، وهذه نفس فلسفة نظام الحزب الجمهوري.
لقد عطل النظام الحالي دور مفتشية الدولة تقريبا، فحصادها خلال سنتين باهت هزيل وغير شفاف، كما خالف ويخالف القانون وأعراف الشفافية في حجز تقرير محكمة الحسابات، وفي طبيعة تغيير تشكلتها، ولم يرتب على تقارير المحكمة المنشورة قبل سنتين أي إجراء ردعي مهم، هذا علاوة على ضمور أو اختفاء دور المفتشيات القطاعية.
أما لجان الصفقات، فبعد الدعاية المفرطة والضجة الكبيرة حولها تم استثناء قطاعات هامة منها مثل الرئاسة والوزارة الأولى ووزارة الدفاع الخ، كما تم تقليم أظافر هذه اللجان بصفقات التراضي الكثيرة والكبيرة وفي أهم القطاعات.
لقد تجاوز النظام الحالي كل هذا في التطبيع مع الفساد وبعثه ولا مركزيته، فقتل أهم إنجاز نظري ردعي ضد الفساد وهو ملف التحقيق البرلماني، والذي لم يوقع طلبه أصلا من حزب الحاكم غير نائبين سحبا توقيعهما قبل إيداع الملف الذي حُول إلى صراع سياسي مع شخص واحد هو الرئيس السابق. فلا يوجد اليوم في السجن أي مسؤول بسبب الفساد، بل إن عشرات المشمولين يقودون مؤسسات أو يشغلون مناصب هامة في الجهاز التنفيذي او مقاعد سياسية في مقدمة حزب الحاكم.
الفظه ما تنتكل مرتين
إن "الفظه ما تنتكل مرتين" ولا يمكن تحسين ظروف موظفي وعقدوي التعليم بشكل لائق، ولا توفير بنية تعليمية حقيقية تحل مشكل الاكتظاظ، ولا اكتتاب ما يكفي من موظفي الصحة، ولا زيادة رواتب صغار موظفي القطاعات العسكرية والأمنية، ولا إنجاز الطرق الهامة والضرورية والملحة في وقت مناسب وبآلية مناسبة، ولا توفير إمكانات حقيقية لتوفير آليات لمحاربة الأسعار، ولا توفير الوقود بأسعار مناسبة أو منطقية، ولا تمويل السدود الريفية ولا دعم دعم الزراعة بتوفير الحاصدات ومحاربة الآفات وتوفير قرض زراعي، ولا إنجاز أي تنمية في ظل بعث الفساد وانتشاره وتشجيعه وإعادة الثقة للمفسدين.
ما الحل؟
الحل أن يدرك المتضررون من الواقع ممن يتمتعون بالوعي الكافي أن هذا الواقع لن يتغير بالتفرج عليه ولا بالحياد تجاهه، بل بالضغط السياسي والاجتماعي بجميع الطرق السلمية القانونية، تنظيما واحتجاجا وتعبيرا الخ
إن 90% على الأقل من منتسبي الوظيفة العمومية لا يمكن أن يكونوا راضين عن واقعهم ولا عن واقع بلدهم، كما أن هذا الكم المتعلم لا يمكن إلا يكون على مستوى من الوعي يؤهله للعب دور جذري في تغيير الواقع إيجابيا وبشكل مؤثر. إن حوالي 60 ألف موظف بين المعملين والأساتذة والأطباء والممرضين والمهندسين وموظفي الإدارة وغير ذلك من منتسبي الوظيفة العمومية وما يؤثرون فيه من علاقاتهم القراباتية ومعارفهم ليمثل كتلة صلبة لرفض هذا الواقع بالطريقة التي تناسب كل فرد وكل جماعة وكل قطاع وكل جهة، سواء كان هذا الرفض بالمطالبة بالحقوق او بالإضرابات أو الاحتجاجات أو التعبير بالبيانات والتصريحات والمقابلات، أو بمقاطعة أنشطة حزب الحاكم وتدجيله للشعب، وهجر وسائل الإعلام الرسمية وتضليها للرأي العام، إلى أن تأتي اللحظة المناسبة ليعبر الجميع عن رفضهم لاستمرار حكم هذا الكشكول الذي يحكم البلد بشكل مباشر منذ 13 سنة وبشكل غير مباشر منذ 16 سنة. إنه وقت كاف للحكم على UPR ومشتقاته التنفيذية والسياسية بالفشل فما لم يتم في عقد ونصف لن يتم الآن!