منذ الإعلان عن اختيار الشيخ الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى، الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، رئيس هيئة العلماء المسلمين ، من طرف العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز لإلقاء الخطبة والصلاة في يوم عرفة هذه السنة ،قامت جماعة تدعي تمثيلها للعلماء المسلمين بحملة إعلامية مسعورة في شبكات التواصل الاجتماعي ضد الشيخ العيسى ، في تطاول وقح على قرار سيادي لخادم الحرمين الشريفين واستنادا إلى مبررات متزمتة تنهل من التطرف والغلو ، وتتجاهل وسطية الإسلام واعتداله وانفتاحه على كل الشعوب وجميع أتباع الأديان، طعنوا في أهلية الشيخ العيسى العلمية والشرعية، وأصدروا بيانا، وطالبوا باعفاءه من خلال ترويج وسم " أنزلوا العيسى من المنبر" على منصة تويتر، فأبانوا عن جهل وضلال في اختيار محتوى هذا الوسم الداعي إلى الفتنة والفوضى في يوم عرفة الذي يعد من أعظم الأيام قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم "الحج عرفة." ، وفي مسجد نمرة الذي يعد من أكبر المساجد وأهم المعالم في مشعر عرفات . دعاة الفتنة تجاهلوا قول الله سبحانه وتعالى " الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ "
لماذا هذا الهجوم الشرس على الشيخ العيسى
الجواب بكل تلخيص لأنه رمز من رموز الوسطية والاعتدال ، يحارب بدون هوادة دعاة التطرف والعنف والإرهاب بالحجة والبيان ويجادلهم بالتي هي أحسن ، كما أنه شخصية إسلامية عالمية عريقة حظيت باحترام وتقدير في الأوساط الإسلامية والعالمية على السواء، ما فتئ يبذل جهودا كبيرة في التعريف بالإسلام ورسالته العالمية والإنسانية السمحه في أوساط القرار السياسي والديني في أمريكا ، وأوربا، وروسيا ، وإفريقيا ، مما ساهم في خلخلة الصور النمطية السلبية عن القيادات الدينية المسلمة لدى الغربيين . وفي خطبه وتصريحاته الصحفية عبر العالم ، ظل الشيخ الدكتور محمد العيسى يدعو إلى تأسيس حوار فعال بين أتباع الأديان ، ويؤكد أن الأمر أضحى ضرورة قائمة وواجبا شرعيا ومطلبا حضاريا ، يتطلب ابتكار سبل جديدة واتخاذ مبادرات عملية لكي لا يكون هذا الحوار ترفا معرفيا واستهلاكا إعلاميا ، بل حوارا معززا للتعاون الدولي في إطارالنزعة الإنسانية الساعية إلى تطوير العلاقات الدولية من أجل تحقيق السلام العالمي .
وبتوجيه منه ، شرعت رابطة العالم الإسلامي في تطبيق رؤية متجددة تهدف إلى توجيه الوعي الإنساني نحو المزيد من التفاهم، وبناء مجتمعات بشرية متعايشة، تربطها قيم التعاون والتسامح، وتجمعها روابط التواصل الحضاري، التي من خلالها تتمكن الأسرة الإنسانية الواحدة من تجاوز عقبات أعداء التعايش والتواصل بين أتباع الحضارات والثقافات والأديان، عبر تعزيز ثقافة التواصل والسلام. وفي الملتقيات والمنتديات التي عقدتها الرابطة في مصر ، وجنوب إفريقيا ، وبريطانيا ، والنمسا ، وفرنسا ، وسويسرا ، وإيطاليا ، والفاتيكان ، وكوسوفا ، وباكستان ، وسنغافورة ، وماليزيا ، وأندونيسيا ، واليابان ، وأمريكا ، أبرز الشيخ الدكتور محمد العيسى في كلماته ومحاضراته أن الرابطة جسرٌ عالميٌّ لتعزيز التواصل الإنساني بواسطة الحوار الفعال ، من أجل التسامح والتعايش والسلام. كما دعا إلى تعزيز مفهوم الأسرة الإنسانية الواحدة التي تقوم على المحبة والتعاون في بناء المجتمع الحضاري، والحرص على محاربة أي شكل من أشكال الإساءة إلى هذه الأسرة في وئامها وتقاربها وتعاونها وتحابها بمختلف أديانها وأعراقها وثقافاتها ودولها. كما شدد على مسؤولية قادة الأديان في تعزيز المفاهيم الحضارية والإنسانية والتحرك الفعلي والجاد لنشر قيم المحبة والسلام وتربية الأجيال على الحوار الفعال. كما ظل يؤكد للعقلاء ومحبي السلام عبر العالم على أن التصادم الروحي والثقافي سببه الرئيس غياب المنطق السليم ومهارات التواصل الحكيم، وأن الأديان تعرضت لتاريخ طويل من الاختطاف والانتحال، وأن التصادمُ الديني يكشف حقيقة بعض المنتسبين إليه لا حقيقة الدين، وأن الإسلام انفتح على الآخرين حتى انه أجاز الزواج من أهل الكتب السماوية، و أن الوقائع التاريخية والآراءِ الدينية والسياسية والاجتماعية السلبية لا تُعبّر عن حقيقة الدين.
وظل الشيخ العيسى يؤكد على أن الحوار الفعال هو الأساس القوي للسلام وللتفاعل بين القيم الإنسانية المشتركة وللتعايش بين أتباع الأديان ،والخروج من دائرة الانغلاق الفكري والاحتقان الثقافي والصدام الحضاري. إنه منهج العقلاء وسبيل الحكماء ، وبفضله يتم تعزيز التعاون الدولي والانخراط الفعلي في الجهود الدولية الهادفة إلى نشر ثقافة العدل والسلام ، وترسيخ قيم التعايش والتسامح والحد من سوء الفهم والتفاهم من خلال التركيز على القواسم والمشتركات الفكرية والثقافية والدينية .
إن دعاة الفتنة والتطرف والغلو في العالم الإسلامي لم يستوعبوا ، بسبب تحجر مواقفهم وضيق أفق تفكيرهم ، أهداف رابطة العالم الإسلامي في رؤيتها الجديدة التي تنطلق من قناعة مفادها أن أتباع الأديان والثقافات أحوج ما يكونون إلى بناء حوار فعال متحرر من رواسب الماضي ، من أجل تعزيز تواصلهم الإنساني وتلاقيهم وتعاونهم في إطار المشتركات والمصالح . كما أغاضهم كثيرا فشل نظرياتهم وانكشاف حقيقتهم في احتكار الدين وتوظيفه لأغراض سياسية ولتحقيق منافع خاصة ، فمن الطبيعي أن يصيب الجمود والابتذال عمل مؤسساتهم ، في مقابل النجاح المضطرد لرابطة العالم الإسلامي التي أصبحت اليوم من أهم المنظمات الدولية التي تدافع عن الرسالة النبيلة والحضارية للإسلام ، فاستطاعت بإشراف وتسيير حكيم وعقلاني من أمينها العام الشيخ العيسى ، أن تكون في طليعة المؤسسات الفكرية التي تهتم بالحوار والتعايش بين أتباع الأديان من خلال وثائقها المرجعية ومؤتمراتها العلمية ومبادراتها الإنسانية والإغاثية . ومن أهم تلك الوثائق المرجعية "وثيقة مكة المكرمة" التي اعتمدها 1200عالم ومفكر من مختلف المذاهب والطوائف في العالم الإسلامي الذين شاركوا في مؤتمر دولي عقدته رابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة في شهر رمضان المبارك من عام 1440 هجرية )مايو 2019).
وفي إطار تفعيل توجهات ومبادئ هذه الوثيقة الإسلامية الحضارية العالمية قام الشيخ العيسى بعدد مهم من الأنشطة النوعية في أمريكا وأوربا وآسيا عكست في مجملها جانبا من جوانب الرؤية الحضارية الجديدة لرابطة العالم الإسلامي . ومن بين الأنشطة التي أثارت حنق المتزمتين من الروافض ترأس الشيخ العيسى وفدًا إسلاميًا رفيع المستوى من علماء العالم الإسلامي من مختلف المذاهب مصحوباً بقيادات دينية من عدد من أتباع الأديان زيارة هذا الوفد لموقع الإبادة الجماعية في سربرنتسا في البوسنة والهرسك ومعسكر الإبادة الجماعية في أوشفيتز ببولندا؛ ضمن جولة دولية في عدد من المواقع التي تعرضت للظلم والاضطهاد، وذلك للتأكيد على التنديد بتلك الجرائم البشعة دون استثناء أيٍّ منها. وزيارته لمقر كاتدرائية نيس الفرنسية، وكاتدرائية العاصمة المقدونية سكوبيه. واجتماعه في واشنطن بعدد من القيادات الإنجيلية الأمريكية ، والقيادات الدينية التايلاندية بكافة تنوعها ، ولقاءه مع البطريرك البوذي الأكبر لمملكة كمبوديا تيب فونغ، والبطريرك بور كري.
في هذه الأنشطة الأكاديمية وغيرها من الأنشطة الخيرية والإغاثية ، ظل الشيخ العيسى حريصا على الاستثمار الأمثل والأنجع للمشتركات الإنسانية وتوجيهها لتحقيق التعاون مع الآخر، والإسهام في تعزيز الاستقرارالاجتماعي، وترسيخ الاعتدال العالمي، ومكافحة العنف والتطرفـ وتقوية علاقات التعاون والتفاهم والتسامح والمحبة بين أتباع الأديان .
بناء على ما سبق ذكره، ألا يستحق الشيخ العيسى أن يصنف من ضمن الشخصيات الفكرية والقيادات الثقافية الإسلامية في مجال الديبلوماسية الدينية في العالم الرائدة . ألم يكن جديرا بنيل العديد من الجوائز من داخل العالم الإسلامي وخارجه ، ومن بينها الدكتوراه الفخرية من الجامعة الأكاديمية للسلام التابعة للأمم المتحدة ، وجائزة النرويج "باني الجسور" العالمية لعام 2021 ،وغيرها من التكريمات والجوائز، اعترافا بجهوده الاستثنائية في تجسير العلاقة بين أتباع الأديان والحضارات بإسهامٍ رائعٍ وملموسٍ، بوصفه قوة عالمية رائدة للسلام والوئام بين الأمم والأديان، ومكافحة الأيديولوجيات المتطرفة. ألا يستحق ثقة خادم الحرمين الشريفين واختياره خطيبا وإماما يوم عرفة بمسجد نمرة ? أليس جديرا بالنيابة عن علماء الأمة الإسلامية الداعين للوسطية والاعتدال والتسامح والوئام والعيش المشترك والمجندين لمواجهة مخططات المتطرفين والغلاة محترفي إصدار الفتاوى وتكفير الناس واحتكار الدين .
ليست هذه الهجمة الشرسة على الشيخ العيسى من طرف دعاة الفتنة ومروجي خطاب التطرف والغلو هي الأولى من نوعها ، ولن تكون الأخيرة . إنها حرب مفتوحة بين الخير والشر ، وبين الهداية والضلال ، وبين الانفتاح والتزمت ، وبين العالمية والانعزالية .فمن الطبيعي ألا تعجب المتطرفين الروافض من الإخوان ومن غيرهم من دعاة الطائفية المقيتة تأكيد الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي على حاجة الجميع للقيم العالية التي تمثّل سمة الإسلام الحق، وتكوين خطاب سامي بسمو مصدره متسمًا بالوسطية والتوازن في محاكماته، متحريًا الصدق والحقيقة في مادته، والجمالية في روحه وأسلوبه مع الترفع عن التجريح والحدة في تناولاته، والارتقاء بالجميع وعياً وسلوكاً في أهدافه ورسالته. وموقفه من التطرف الفكري الذي يعتبره سلوكا عدوانيا يستهدف الإخلال بالأمن وتقويض أركان الاستقرار، ويتناقض مع أصول أحكام الشريعة ومقاصدها.
لن تعجبهم دعوته لتضافر جهود حملة العلم، وقادة الدعوة والإصلاح، ومؤسسات التعليم والإعلام، في ترسيخ وسطية الإسلام في الوعي العام، والتصدي للمتحكمين المتعالمين الذين يسارعون في التكفير والتضليل، والطعن في العلماء، وتزيين الخروج على الحكام، مستغلين في الشباب ضعف صلتهم بالعلم والعلماء، وقلة زادهم من الثقافة الدينية، وسهولة اصطيادهم عبر الشبكة الرقمية للمعلومات والاتصال.
ولن يروقهم تحذيره المتواصل من التطرف الفكري، وما أفرزه من تنظيمات تمارس العنف والإرهاب باسم الدين وتحت شعاره، وقوله بأن " التطرف الفكري ظاهرة تمددية ألقت بظلالها القاتمة على المجتمعات المسلمة، فأرهقتها وأرّقتها بفتن وصراع مرير، وزعزعة الأمن وإنهاك الاقتصاد، والتأثير السلبي على العلاقات الاجتماعية، كما أضعفت الصلة بالمرجعية الإسلامية، وجرأت الأغرار والجهلة على العلماء والمفتين، ولمعت أسماء لا حظ لها من العلم إلا ضحالة الفهم والدعاوى الجوفاء داعيًا إلى التصدي لظاهرة التطرف الفكري عبر الإحاطة بها من جوانبها، ودراستها في أبعادها الفكرية والنفسية والاجتماعية، وتحليل أسبابها ورصْد آثارها المختلفة، ومن تلك الحصيلة الشاملة تُستخلَص سُبلُ علاجها."
ويتضح أن هدف القائمين بهده الحملة الإعلامية المسعورة ضد تعيين أحد علماء العالم الإسلامي المشهود لهم دوليا بالحكمة والتبصر والانفتاح والتواصل كان هو إفساد أجواء مناسك الحج ، ونشر الفتنة والتمرد والانقسام بين صفوف الحجيج في يوم مشهود عند رب العالمين . وهي حملة تندرج في إطار مساعي فاشلة لجماعات وتيارات فكرية متطرفة تستغل موسم الحج لنشر الفتنة وإثارة البلبلة بين جموع المسلمين وبث الفتنة بينهم لتشكيكهم في ثوابت دينهم من خلال ترويج مغالطات ونشر دعوات غريبة وطائفية من بينها الدعوة إلى نقل مراسم الحج إلى كربلاء بدلا من الحج إلى بيت الله الحرام و تنظيم رحلات حج لجبل الطور. ومنها كذلك الإعلان عن تأسيس الهيئة الدولية لمراقبة إدارة السعودية للحرمين عام 2018، وتنظيم مؤتمر دولي في أندونيسيا تحت عنوان "المواقع الإسلامية المقدسة في المملكة العربية السعودية والدور المستقبلي للدول الإسلامية في الإدارة والتطوير"، والمطالبة بإشراك الأمة الإسلامية في إدارة الحرمين ، ثم قبل ذلك المحاولات المتكررة من النظام الإيراني لإفساد موسم الحج منذ عام 1986 .
في الختام ، تجدر الإشارة إلى أن الشيخ العيسى يحظر بكثير من التقدير والاحترام في المملكة المغربية لاعتبارات عديدة منها تقديره للعلماء المغاربة الذين وصفهم قائلا " أنهم يتمتعون بمكانة مهمة في التنظير والتأسيس العلمي، لاسيما في بعده المعتدل، وهي عوامل رئيسة في تعزيز قيم الوسطية والاعتدال ومحاربة التطرف والإرهاب، ينبغي الاستفادة منها وتعميمها على كل دول العالم الإسلامي." كما أن مبادراته ومساعيه ومواقفه الفكرية منسجمة مع الرؤية الدينية والفكرية للمملكة المغربية القائمة على الدعوة إلى الوسطية والاعتدال ، ونبذ العنف والتطرف والغلو والطائفية المذهبية ، وتعزيز الحوار والتفاهم والتعايش بين أتباع الأديان من خلال أقامة علاقات متميزة مع الفاتيكان واحترام الحقوق الدينية والثقافية للمسيحيين واليهود. ولا ننسى أن علاقات تعاون وشراكة قوية تجمع بين رابطة العالم الإسلامي والرابطة المحمدية للعلماء في المغرب في إطار رؤية منسجمة ومتكاملة في مكافحة التطرف ونشر السلم والأمن والتسامح والوئام بين الشعوب.
المحجوب بن سعيد/ باحث في علوم الاتصال والحوار الثقافي / الرباط