من الأحكام والاتهامات التي روجها القائمون بالهجمة الإعلامية في شبكات التواصل الاجتماعي ضد الشيخ الدكتورمحمد بن عبد الكريم العيسى" التحريض على المسلمين في فرنسا وغيرها ." وهي أحكام واتهامات باطلة لا تستند على دلائل ومعطيات واقعية . لا يتسع المجال لاستعراض البراهين المنفذة لتلك الادعاءات الكاذبة والمضللة ، فهي كثيرة ومتنوعة ونكتفي في هذا المقال بتقديم أهمها وأكثرها دلالة وأقواها تأثيرا .
واظب الشيخ الدكتور محمد العيسى، الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي ، على القيام بزيارات عمل – وليس زيارات سياحة واستجمام - لعدد من الدول الغربية في أوربا وأمريكا التي توجد فيها أقليات وجاليات مسلمة بنسب عالية. وكانت تلك الزيارات من مبادراته المهمة والبالغة الأثر لتصحيح المعلومات الخاطئة عن الإسلام وحضارته ، والتعريف الفاعل بالرؤية الإسلامية المستنيرة والحضارية القائمة على الوسطية والاعتدال والداعية إلى السلم والحواروالتسامح والتعايش بين أتباع الأديان . ولذلك فإن القول بتأييد الشيخ العيسى لبعض القوانين الغربية التي تمنع الحجاب هو كذب وافتراء ، لأنه في خطبه وتصريحاته الموثقة بالكلمة والصورة أكد أنه يتعين على هذه القوانين احترام الخصوصية الدينية لكل دين، وإذا صدرت بعكس ذلك فيتم الطعن فيها أمام القضاء ، وليس أمام المسلم سوى احترام الدستوروالقوانين الجاري بها العمل بدون صدام ولا صراع. وهي دعوة لم تعجب الجماعات المتطرفة التي تتاجر بقضايا الأقليات المسلمة في المجتمعات الغربية وترفع شعارات دار الكفر ودار الإيمان ، وتنشر الفتنة والهلع والخوف والغلو مما يسيئ لصورة الإسلام وللمسلمين . لقد جاءت هذه الدعوة منسجمة مع توجهات وثيقة مكة المكرمة الداعية إلى احترام المواطنة الشاملة، والولاء الصادق للوطن، والمحافظة على الأمن، والسلم الاجتماعي. ، في إطار مشروع عمل لرابطة العمل الإسلامي متعدد وشامل يتضمن جوانب التثقيف القانوني، والتأطير التشريعي، والتواصل الحضاري، وتعزيز العلاقات مع منظمات المجتمع المدني ، والانفتاح على القوى السياسية في الدول الغربية .
وفي هذا السياق ، نستحضر خطاب الشيخ العيسى في أعمال مؤتمر "الإسلام في أوربا والتخويف من الإسلام" ، الذي عقد في مقرالبرلمان الأوربي شهر مارس 2017 بمدينة بروكسيل ، وحضرته شخصيات برلمانية وسياسية أوربية، وعدد من أتباع الأديان والثقافات الأوروبية وعدد من قادة ونشطاء الجاليات المسلمة في أوروبا. لقد تحدث الشيخ العيسى في هذا الخطاب بموضوعية عن ضرورة حماية حقوق الجاليات المسلمة الدينية والثقافية ، كما تحدث عن الأخطاء الصادرة عن بعض الجاليات المسلمة في البلاد غير الإسلامية المتعلقة بمطالبات خصوصياتها الدينية والثقافية ، وقال " يجب أن تكون تلك المطالبات في إطار النظام العام للدولة، وأدوات الحسم الدستورية والقانونية وليس غيرَها، وأن أي تجاوز لذلك يُعتبر إساءة للإسلام قبل غيره، وعليها في جميع الأحوال احترامَ القرار النهائي والعملَ به، وعدمَ الإساءة إليه ولا إلى الثقافة المحلية بأي أسلوب كان، وتعاليم الإسلام تَعْذِرُ المسلمَ في كل خصوصية لا يستطيع العمل بها ومن ذلك اصطدامها بالدساتير أو القوانين أو القرارات النهائية النافذة"
ونستحضر كذلك المحاضرة المهمة التي ألقاها الشيخ العيسى في شهر مايو 2021 في مقر مركز الشرق الأدنى وجنوب آسيا للدراسات الاستراتيجية "نيسا" التابع لوزارة الدفاع الأمريكية والتي تناول فيها عددا من القضايا الشائكة التي تشعل بال المجتمع الدولي في الوقت الراهن ، ومن بينها عواقب التطرف العنيف حول العالم، وتحليل دور المجتمعات الوطنية بكافة فعالياتها في التعامل مع اتجاهات التطرف العنيف، والتوظيف السلبي لرسائل التشدد الديني، ومتكزات إيديولوجية الإسلام السياسي. وأوضح أن هناك وعياً كبيراً اليوم في العالم الإسلامي وفي عدد من دول الأقليات الإسلامية بخطورة هذه الإيديولوجية التي تقودها جماعة الإخوان المسلمين حيث تكشفت آثارها السلبية المسيئة لسمعة الإسلام والمسلمين كما ظهرت للجميع ممارسات الكراهية والانعزالية التي تعمل عليها ضد مجتمعاتها الوطنية سواء في الداخل الإسلامي أو خارجه. وتحدث الشيخ العيسى في هذه المحاضرة عن حالة الانقسام الحادّ بين الطوائف الدينية، وأكد أن عدم التوعية الكافية للشباب المسلم في العالم الإسلامي وفي دول الأقليات بالقيم الدينية الصحيحة وعدم تعزيز قيم المواطنة الشاملة التي تؤمن بحتمية الاختلاف والتنوع والتعدد كل ذلك ساعد على هشاشة حصانتهم العلمية والفكرية ومن ثم سهولة التأثير عليهم من قبل جماعات التطرف العنيف والإرهابي.
كما نستحضر تعليق الشيخ العيسى على تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الواردة في خطابه المثير للجدل الذي ألقاه يوم 2 أكتوبر 2020 بضواحي باريس وأعلن فيه أنه على فرنسا "التصدي للنزعة الإسلامية الراديكالية" وأن الإسلام "ديانة تعيش اليوم أزمة في كل مكان في العالم". ردا على ذلك ، قال الشيخ العيسى في إحدى حلقات البرنامج التلفزي ( في الآفاق) بقناة MBC " إن هناك مسلمون أو محسوبون زورا وكذبا على الإسلام أساؤوا إلى سمعة الإسلام من خلال تشددهم وتطرفهم وعنفهم وإرهابهم، مؤكدا أنهم لا يمثلون الإسلام مطلقا وأن البلاد الإسلامية اكتوت بعنفهم أكثر من غيرها. " وأوضح كذلك أن المحسوبين زورا على الإسلام لا يمثلونه مطلقا لا في انعزالهم ولا في ما يحاولون القيام به من كيانات انفصالية ، ولا يجوز الدفاع عنهم ولا تبريرأفعالهم ، كما لايجوز تعميم تصرفهم على الاعتدال الإسلامي الذي يتعامل مع كل القضايا الإسلامية والإنسانية. وأعلن أن رابطة العالم الإسلامي عقدت تحالفات قوية مع عدد من مؤسسات وقيادات أتباع الأديان، ولها أصدقاء في فرنسا من أتباع الأديان ومن المثقفين والمفكرين وأيضا السياسيين. وأبرز كذلك أن لكل جماعة وأمة دينها وقناعاتها العقائدية والفكرية ،ولكن يجب الالتزام بالحريات المؤطرة بالأخلاق والقيم الإنسانية ، والتصدي لأي أسلوب من أساليب الصدام والصراع والكراهية والعنف تحت أي ذريعة . وأكد أن ممارسي ما يسمى بالإسلام السياسي يمثلون أنفسهم ولا يمثلون حقيقة الإسلام ، ولا يجب أن يحكم على الإسلام من خلالهم أبدا لأنه كيان كبير يحمل معاني عظيمة ، ودين يتبعه أكثر من مليار و800 مليون مسلم عبر العالم ، وبالتالي لا يمكن أن يختزل في أهداف سياسية محلية.
ومن المهم كذلك التذكير بالدلالات والإشارات التي حملها الاتصال الهاتفي للشيخ العيسى مع وزير الخارجية الفرنسية آنذالك السيد جان ايف لودريان، ولقاؤه في مدينة جدة مع السيدة إيمليا لاكرافي،عضومجلس النواب الفرنسي بحضور السفير والقنصل الفرنسي في المملكة العربية السعودية . وهي لقاءات تؤكد أن رابطة العالم الإسلامي تمثل باستحقاق و جذارة ) الضمير الحي للمسلمين ومنارة الاعتدال الإسلامي) ، كما تؤكد اقتناع الحكومة الفرنسية بأن الأمين العام للرابطة من أبرز القيادات الدينية في العالم الإسلامي وغيره ، وأكثرها انفتاحا ووثوقية بفضل مواقفه القوية ضد الفكرالمتطرف، ودعوته الصادقة للحوار بين الثقافات والتعايش بين أتباع الأديان والتصدي للكراهية وتعزيز السلام بين الشعوب والأمم .
وفي حوار أجرته معه الصحيفة الفرنسية ) Journal du dimanche ) خلال شهر نوفمبر 2020 ، عبَّر الشيخ العيسى بكل شجاعة عن دعمه لمشروع القانون الفرنسي ضد الانفصالية قائلا " لقد دعونا دائماً مسلمي فرنسا وكذلك المسلمين المقيمين في فرنسا، إلى احترام الدستور والقوانين والقيم الخاصة بالجمهورية الفرنسية، تماماً كما نتوقع في العالم الإسلامي من الآخرين احترام دساتيرنا وقيمنا. نواصل الدعوة إلى “حوار حضاري وثقافي” بين الأمم والشعوب، ونحذر من مفاهيم “صدام الحضارات”. لقد عزل الانفصاليون أنفسهم في البداية عن المجتمعات الإسلامية، قبل عزلوا أنفسهم عن المجتمعات الأخرى في فرنسا أو في أي مكان آخر". وصرح بدون مواربة بأنه يتعين على كل مَن يعيش في أي بلد، في فرنسا أو في أي مكان آخر، احترام قوانينه أو مغادرة هذا البلد. أما إذا كانت هناك إمكانية لمراعاة خصوصيات دينية ما على المستوى الفردي أو الجماعي في تلك التشريعات وفي إطار القانون المنصوص عليه في هذا البلد، فيجب المطالبة بالحقوق من خلال الوسائل القانونية والتشريعية.
وفيما يتعلق بالجهود التي بذلتها رابطة العالم الإسلامي وأمينها العام الشيخ العيسى لفائدة الجاليات والأقليات المسلمة عبر العالم ، نشير على سبيل الذكر، إلى ما يلي :
الاتفاق التاريخي بين رموز القيادات الإسلامية في أمريكا الشمالية والجنوبية وكندا على إنشاء هيئة مستقلة تجمع مختلف الطوائف والمذاهب الإسلامية التي يتبعها ملايين المسلمين في بلدان هذه المنطقة. وكان ذلك الاتفاق تتويجاً لأول ملتقى يجمع القيادات الإسلامية من الأمريكتين، والذي أطلقه الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي من العاصمة الأمريكية واشنطن، واستقطب شركاء داعمين رفيعي المستوى من أعضاء ومستشارين في مجلس النواب الأمريكي (الكونغرس)، ونخبة من القيادات الدينية والمجتمعية والحكومية غير الإسلامية، الذين وصفوه بـ "الحدث الاستثنائي الذي يُعبر عن الوعي والمسؤولية والتنوير".
البيان المشترك بين رابطة العالم الإسلامي والهيئة الإسلامية في النمسا الذي يؤكد على ضرورة تعزيز برامج الوئام الوطني والاندماج المجتمعي، والاتفاق على تفعيل مضامين وثيقة مكة المكرمة وترجمتها، ورفعها للجهات المعنية بالتواصل الحضاري، وعقد الفعاليات الفكرية والثقافية حولها، والسعي لدمجها في البرامج التعليمية والتشجيع على مناقشتها في الفضاء العام بما ينسجم مع دستور الهيئة ودستور الجمهورية النمساوية،والتعريف بالإسلام ومبادئه السمحة، ونشر الوسطية والاعتدال، ومكافحة الغلو والتطرف .
توقيع مذكرة تفاهم مع المفوضية الإسلامية في إسبانيا، تتضمن إعداد خطة عمل ذات برنامج زمني محدد لتفعيل مضامين "وثيقة مكة المكرمة" داخل مملكة إسبانيا والدول الناطقة بالإسبانية، ويشمل ذلك: ترجمتها ونشرها ومناقشتها في مختلف المناسبات الثقافية، والسعي لإدماجها في المناهج التعليمية بالإضافة إلى برنامج دراسات عُليا معتمد من وزارة التعليم الإسبانية حول مضامين وثيقة مكة المكرمة والدور المرجو منها في التأليف بين البشر . وبموجب هذه المذكرة سيتم إعداد خطة عمل لتعليم اللغة العربية في إسبانيا من خلال إقامة دورات تعليمية في الجامعات الإسبانية للشباب والأئمة والخطباء والمعلمين، وإنشاء مركز للشباب يهدف إلى تعزيز مبادئ المحبة والتعايش في نفوس هذه الفئة قبل دخولهم إلى المعترك الوظيفي وحماتيهم من الوقوع في فخ التطرف والتخويف الإسلام ، كما يُشرح موقف الإسلام من القضايا المعاصرة.
إن دعاة الفتنة يتجاهلون أو يجهلونأن الجاليات والأقليات المسلمة اكتسبت في معظم البلدان الغربية كيانا قانونيا يوفر لها إمكانات الاندماج في المجتمعات التي تعيش في وسطها على النحو الذي لا يفقدها خصوصياتها، ولا يؤثر في تركيبتها الاجتماعية التي تستند إلى الهوية الثقافية الحضارية التي تتميز بها، وهو الأمر الذي يجعل هذه الأقليات والجاليات في موقع القدرة على الحوار والتعايش مع جميع الفئات في مجتمعاتها، ويمكنها في الوقت نفسه، من التعامل المتكافئ مع الظروف المحيطة بها، وبقدر كبير من الاستقلالية في القرار، والحرية في التصرف.
لقد أدرك الشيخ العيسى، من خلال اتصالاته وزياراته الميدانية ، أن عدم التزام بعض الأقليات والجاليات المسلمة بالقوانين والدساتير المحلية ، أصبح يمثل مشكلا سياسيا يؤرق عددا من الحكومات الغربية . ويعود السبب في الغالب لأمرين إثنين ، من جهة الاكتفاء بالمطالبة بتطبيق ما ينص عليه العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية بخصوص قضية حقوق الأقليات حيث تنص المادة (27) من العهد على أنه (لا يجوز في الدول التي توجد بها أقليات أثنية أو دينية أو لغوية أن يحرم الأشخاص المنتسبون إلي الأقليات المذكورة من حق التمتع بثقافتهم الخاصة أو المجاهرة بدينهم وإقامة شعائره أو استخدام لغتهم بالاشتراك مع الأعضاء الآخرين في جماعتهم) . ومن جهة أخرى تأثير الفتاوى المغرضة للجماعات المتطرفة التي استطاعت أن تنشر أفكارا مضللة تقول بأن قوانين الغربيين وضعية لا يعتد بها لأنها مخالفة للشريعة وللقوانين الإلهية ، وأن المجتمعات الغربية دار كفر يجب شرعا مقاطعتها والجهاد من أجل تحويلها إلى دار إيمان.
من هذا المنطلق، واستنادا إلى توجهات ومبادئ رسالتها الحضارية الهادفة إلى نشر ثقافة السلم لتحقيق الأمن المجتمعي ، واستلهاما لمبادراتها الدولية الرائدة في مجال ترسيخ قيم العيش المشترك والاحترام المتبادل بين شعوب العالم ،وتعزيز التسامح والحوار بين أتباع الأديان ، والدفاع عن الهوية الثقافية للأقليات المسلمة عبر العالم ، تعداليوم رابطة العالم الإسلامي ، بقيادة أمينها العام الشيخ العيسىفي طليعة المنظمات الإسلامية والدولية الأكثر مصداقية وقدرة على توعية الأقليات المسلمة في العالم على التشبت بهويتها الثقافية والدينية ومساعدتها على الالتزام باحترام القوانين المنصوص عليها في دساتير الدول التي تعيشها فيها هذه الأقليات،إما كمهاجرين شرعيين أو مواطنين كاملي المواطنة.
بناء على ما سبق ذكره فقد كان حريا بمن اتهموا الشيخ العيسى بالتحريض على المسلمين في فرنسا وغيرها من الدول الغربية أن يناقشوا كل مبادرة من مبادراته نقاشا هادئا وبالحجة والبرهان عوض التخوين والتكفير والسب والشتم ، وأن يعرضوا للرأي العام الجهود التي بذلوها من أجل مواجهة هدا التحريض،ومن أجل الدفاع عن الحقوق الدينية والثقافية والسياسية للجاليات والأقليات المسلمة في الدول الغربية . لكنهم للأسف لا يتوفرون على ذلك، وليس في وسعهم سوى غسل أدمغة أطفال وشباب هذه الجاليات وحثهم على السفر إلى معسكرات القاعدة وداعش للجهاد والشهادة في سبل الله وارتكاب عمليات إرهابية باسم الدين الإسلامي.
إذن على أي اساس منطقي يرفضون قيام الشيخ العيسى بدعوة المسلمين في فرنسا وغيرها من الدول الغربية باحترام القوانين المحلية والنأي عن التطرف والعنف والدفاع عن حقوقهم الدينية والثقافية بالأساليب الحضارية والقانونية . وماذا جنى المتطرفون بأفعالهم من مكاسب سوى هجوم الأحزاب اليمينية المتطرفة على الأقليات والجاليات المسلمة والمطالبة بطردها . فمن يحرض فعليا على المسلمين في الدول الغربية؟