الأحـــد الماضي، 11 سبتمبر، بعث الفريق خليفة حفتر قائد الجيش الليبي، قواته للسيطرة على منطقة الهلال النفطي حيث توجد أربعة مواني نفطية. وتمت العملية بسرعة درامية في يوم واحـد. وهكذا حررت الموانئ من قبضة ابراهيم الجضران الذي سبق وأن عين نفسه قائدا على قوة حرس المنشأت. وبهذه الخطوة ثمة فرصـة لتستعيد ليبيا تصدير نفطـهـا، وإنعاش اقتصادهـا المنـهــار. وربما ســببت هـذه التطـورات حرجـا، للذين أمضوا العام الماضي في حوارات برعاية الأمم المتحـدة، دون أن تثمر شيئا ســوى مزيد من الجـدل الذي لا ينتهي.
لا شك أن الجنرال حفتر شـخصية مثيرة للجدل. وقبل عامين أعلن أحد المحللين المتخصصين الدوليين في المسألة الليبية، أنـه لا يرى دورا لحفتر في مستقبل ليبيا.بالمقابل يذكرني نجاح الفريق حفتر الجديد بتعليق لضابط سـابق وصديق، قبل سنين حين وصف حفتر بأنه “عسكري عسكري. يحترمه أو يخشاه صغار الضباط. وهـو لهـذا يمتلك صـفات القيادة”. وقد لا يوافق الكل على هـذا، وربما تحفظ آخرون.
كان حفتر أحد الضباط الشباب أو الأحرار الذين شــاركوا القذافي في الإطاحة بالحكم الملكي سـنة 1969. وبعد سنوات، أرسل على رأس جيش لغزو دولة تشاد، جارة ليبيا الجنـوبية. وفي 1987 ، وقع ومعه حوالي 300 من رجاله في الأسر، إثر معركة وادي الدوم الكارثية. وأطلق سراحـه في 1990 ، وسـافر إلى الولايات المتحــدة حيث أقام عقدين من الزمن، وحيث اتصل بحركات المعارضة بالمنــفى.
وفي 2011، عاد حفتر إلى ليبيا ليشارك في الحرب ضـد القــذافي. وأذكر يوم مجيئه للمجلس الانتـقــالي، حين كان محاطا بحراسة كثيفة من الجنود الموالين له.وفي جلسة مغلقة لبعض قادة الانتقالي ، وحسب ما أخبرني آنذاك قـريـبـــه المرحوم اللواء عمر الحريري، أن حـفـتر قال أنه لن يكون بامكانه العمل تحت إمـرة المرحـوم اللواء عبد الفـتــاح يونس الذي كان سيعين قائدا للقوات المسلحة.
وخلال العامين التاليين، اختفى حـفـتر عن الأوسـاط العامة، لكنه كان في الواقع يسعى لحشـد التأييد بين الضباط المتـقـاعـدين لإعـادة بنــاء الجيش ومحاربــة التـطـرف. وفي 16 مايو 2014 أعلن الفريق حـفـتــر عملية الـكـرامـة، لشن حملــة على الميليشـيات الإسـلامية في بنـغــازي. وفي 2 مارس 2015، عينه البرلمان المسـتـقـر في طبرق، والمعترف بشرعيته دوليا، قـائدا للقوات المسلحـة.
وعلى وقع أصوات الحرب في شوارع بنـغـــازي، تـقـدم الجيش ببـطء ليدفع الميلشيا (شورى ثوار بنـغــازي) نـحـو الأحـيــاء الطرفية. وقد كان الثمن باهضا، سـواء بأعـداد الضحـايا أو الدمار المادي والعـوز الذي عاناه سـكان المدينة التي نزح قرابة 15% من سـكانـها. كما عانت المدينة ولا تزال من شحة السيولة النقدية، وانقطاع الكهرباء، ونقص الخبز وانهيار الخدمات. ورغم كل ذلك، نال حـفـتر تأيـيـدا عاما واسـعا، فـبـعــودة الجيش والشرطة اســتـعـادت بنـغـازي قـدرا من تـحـضـرهـا وقـواعد الحياة المستقرة، بتقلص معدلات الاغتيالات و السرقات المسلحة والخطف، كما اختفى المسلحون الذين كانوا يجوبون المدينة.
في هذه الفترة، اسـتقرت في العاصمة طرابلس، حكومة الوفاق الوطني، التي تدعمها الدول الكبرى بحماس، مع أنـها ما تزال محصورة في قاعدة بحرية بينما تبقى إدارة المدينة فعليا في أيدي قادة ورجال المليشيات. وعمر حكومة الوفاق القصير صاحبته تجاوزات للاتفاق السياسي الذي نسجته بعثة الأمم المتـحـــدة. بل إذا توخينا الدقـة، يمكننا القول بأن حكومة الوفاق تفتقد للشرعية الديموقراطية، والمكانة الدستورية. هذا فضلا عن كونـهـا مكبلة وعاجزة عن اتخـاذ القرارات، لأن قراراتها يجب أن تـتـخـذ بالإجماع وليس بأغلبية الأصوات، وهو أمر شبه مستحيل لأن أعضاءها تم اختيارهم بالمحاصصة وبالتالي مختلفي القناعات والولاءات.
قبل أسابيع تقدمت تحت راية حكومة الوفاق، قوات من مصراتـه لتخليص سرت من سيطرة عناصر تنظيم الدولة الإسلامية، وخلال الأسابيع الستة الماضية شارك طيران الولايات المتحدة في المعارك. وجاءت المبادرة الأميركية مسـتـقلة عن حكومة الوفاق، وعن شركائهم الأوروبيـين. من ذلك مثلا أن السيد السراج رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق، نفى وجود قوات أميركية على الأرض. وفي اليوم التالي، كشفت صحيفة الواشنطون بوست (9 أغسطس) ، أن قوات أميركية خاصة توفر دعما مباشرا وعلى الأرض للمقاتلين ضد قوات تنظيم الدولة الإسلامية. كما أن الإتحاد الأوروبي اضطر أيضا لتناسي ما سبق أن وعدوا به من قوة تعدادها 5000 بقيادة جنرال إيطالي لدعم استقرار حكومة الوفاق.
وبين هاتين البؤرتين المشتعلتين في بنغازي وسرت، يمتد الهـــلال النفطي، ذي القيمة الاستراتيجية، حيث أن طاقته التصديرية تبلغ 1.3 مليون برميل يوميا، يمكن أن تدر على ليبيا دخلا بحوالي 75 مليون دولار في اليوم. لكن المواني الأربعة قفلت بأوامر الجضران منذ أغسطس 2013. والجضران شخصية لا لون لها سياسيا، وذو ماضي غير واضح، ومؤخرا أعلن ولاءه لحكومة الوفاق مقابل مبلغ مالي كبير بحجة حاجته لدفع مرتبات قوائم جـنـوده المبالغ فيها.
لا شك أن دخول الجيش لمنطقة الهلال النفطي، قـد أحـدثت تغيرا في موازين القوى بليبيا، حتى أن حكومة الوفاق ارتبكت ولم تعرف كيف تستجيب للخبر. لكن نتائج السيطرة على موانئ النفط يجب أن تسـعـد كل من له اهتمام بالشأن الليبي، لأنـه سـيقود على الأقل، إلى تخفيض التضخم النقدي السائد والذي رفع سعر صرف الدولار بخمسة أضعاف، وأفقد ثقة التجار في المصارف، فاحتفظوا بأموالهم فكانت أزمة السيولة النقدية ومعاناة الناس. وقد قرر الجيش تسليم المواني للمؤسسة الوطنية للنفط لإدارتها وتشغيلها واستئناف التصدير.
لكن ردة فعل الدول الغربية جاءت سلبية، إذ أصدرت بيانا تطالب فيه قوات حفتر للانسحاب من الموانئ. وهذا موقف لا يبشر بخير. والموضوع مطروح على مجلس الأمن الآن. ولعل الأجدى بالقوى الغربية بدلا من التصرف في فورة غضب، أن تسعى لتنظيم وحدات بضمانات دولية، لمراقبة الموانئ النفطية وتأمين استئناف تصدير النفط منها.
من جهة أخرى، لابد من اعتراف الجميع الآن بموقع الفريق حفتر كلاعب رئيسي في المشهد الليبي، خاصة إذا تذكرنا أن لديه حلفاء في دواخل طرابلس، وفي الجنوب (فـزان). كما أن منافسيه الرئيسيين ، وهم قادة مصراته، يبدون على موقفين. الأكثر تشددا لم ينتهوا بعد من الحرب في سرت، ولكنهم يحققون تقدما وإن بثمن باهض. ولا شك أن دروس معارك سرت سـتـفـرز حكمة عالية. وهناك في مصراته قادة أكثر اعتدالا يدعون لنبــذ القتال ويدعون للتسامح والتوافق.
كل هذه التطورات، يمكن أن تعيد الاستقرار في ليبيا، وتفتح الطريق لإعادة البناء، وخاصة إعادة بناء مؤســسات الدولة. من ناحية أخرى لابد من التنويه إلى أن الجـمــاعات الإسلامية المسلحة لن تختفي تلقائيا وبسرعة. ولابـد من مقاربات عملية لمعالجة الموضوع، خاصة وأن ليبيا مجتمع ينبذ التطرف كما اتضح من انتخابات 2012.
وعلى مستوى أساسي وأكثر عمومية لابد من التذكير بأن المشاكل التي اجتاحت ليبيا منذ سقوط نظام القذافي، تعود جذورها إلى انتشار السلاح دون سيطرة. ولابـد لأي مبادرة بنـاءة أن تبــدأ هـنا. وعلى كل من يريد أن يساعـد ليبيـا أن يســهم في تدشين برنامج لتطهير البلاد من السلاح، بالشراء، وإعادة التدريب والتأهيل الاجتماعي والاقتصادي. ودون هـذا، ســتبقى ليـبـــيا دون اســـتـقرار تعصف بـهـا شتى التيــارات التقسيمية، التي ييســرها اصلا موقـع البلاد الجـغــرافي!!
د محمد محمد المـفــتي
كاتب ليبي